فاطمة بنت عبد الملك

" الأميرة الزاهدة "

 

امرأة قلّما تجود الدنيا بمثلها !! درجت في أكناف النّعيم، وترعرعت في أروقة الخلافة وأبهة الملك .. فقد كان أبوها وجدها وإخوانها وأبناؤهم جميعاً خلفاء، فعاشت تتقلب في مطارف العزّ والدلال، فقد أحبها أبوها حبًّا جماً، وأعذق عليها أصناف الرفاهية والهناءة. فنشأت أميرة يحفها بهاء الملك من كل جانب .. ويستنير وجهها بسنا الرفعة وأُلق الغنى.. إنها فاطمة بنت عبد الملك بن مروان الأموية القرشية، التي قال عنها الزبير بن بكّار: لم تكن امرأة تستحق هذا البيت إلى يومنا هذا غيرها، وهو :

بنتُ الخليفة والخليفةُ جدّها      أخت الخلائف والخليفة بعلُها

وقد اكتمل عقد فضلها حين أضفت عليه من جواهر العلم ودرره الشيء الكثير، فقد حرصت على طلبه، حتى أضحت راوية للحديث، وقد كانت ممن ذكرها أبو زرعة فيمن حدّث بالشام من النساء، وقد روى عنها عدد من العلماء والتابعين أمثال عطاء بن أبي رباح المكي التابعي مفتي أهل مكة ومحدثهم، وكذلك روى عنها أبو عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري وغيرهما.

وبذا اكتمل لفاطمة عقد كمال نادر قلّ أن تناله امرأة في الوجود، وبقيت تتطلع هي إلى واسطته وأثمن جواهره، وهو الزوج الصالح الذي بوجوده ستنهل من منابع السعادة والفلاح، فأتمّ الله نعمته عليها بأن وهبها رجلاً من خيرة الرجال أميراً محباً صالحاً زاهداً هو الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

فقد تربّى ابن عمها عمر بين إخوتها في قصر والدها بعد وفاة أبيها عبد العزيز بن مروان حيث ضمه عبد الملك إليه وربّاه بين أبنائه، وحين بلغت فاطمة سن الصبا اليافع، ونضج شبابهما، اختار لها أبوها ابن عمها عمر زوجاً وكفؤاً لها..

فأعجبها اختيار أبيها، وفرح عمر بها، وأجاب عمه قائلاً: وصلك الله يا أمير المؤمنين، فقد كفيت المسألة وأجزلت العطية. فازداد عمه إعجاباً به .

وكان عمر منذ نشأته فصيحاً لَسِناً، فلما سأله عمه عن نفقته –ضماناً لمعيشة ابنته- فأجابه: هي بين السيئتين .

قال: وما هما؟

قال: قول الله تعالى " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً " سورة الفرقان:67 .

فسُرّ عبد الملك به وتساءل عمّن علّمه هذا؟!

وزُفّت فاطمة إلى زوجها، فكان يوم زفافهما من الأيام المشهودة في دمشق، فقد ذكر من حضر عرسهما أنهم كانوا يسرجون القناديل بالغالية(1) بدلاً من الزيت.

وعاشت فاطمة مع عمر عيشة مترفة منعمة، فقد أضحى عمر والي المدينة، ورزقهما الله منه بابنين اثنين هما: إسحاق ويعقوب.

ودامت هذه الحياة الهنيئة حتى كان عام تسع وتسعين من الهجرة حين تولى زوجها خلافة الأمة، فانقلبت حياته، وغدا –وهو الشاب الذي غُذّي من آنية الملك- إماماً زاهداً تثقل مسئولية الخلافة كاهله.

وأضحت فاطمة بين يوم وليلة زوج الخليفة الزاهد، فوقفت تلك الأميرة الأموية زوجة زوجة معينة مخلصة، واستشعرت مسئوليتها تجاه زوجها الذي آثر طريق الآخرة راكباً مركب التقشف والزهد، ولم تتردد فاطمة بين ما ألفته من حياة الترف والنعيم سابقاً وبين ما يدعوها إليه زوجها الخليفة من حياة جديدة قد تشقّ عليها.. فأصالة نسبها، وطيب منشئها وتربيتها دفعاها دفعاً للتحول التام إلى الوقوف بجانب زوجها، فباعت لأجله حياتها السابقة دون أسف أو ألم، فهاهو عمر يخيّرها بين البقاء معه أو التحوّل إلى أهلها إذا كانت تتمسك بجواهر لها كان أبوها قد أعطاها إياها لم ير الرائي أثمن منها، فكان مما قاله لها –رضي الله عنها- :" اختاري إما أن تردّي حليّك إلى بيت المال، وإما أن تأذني في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد. 

قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين، وعلى أضعافه لو كان لي.

فأمر به عمر فوضع في بيت مال المسلمين.

وحين توفي عمر –رضي الله عنه - واستخلف يزيد، سأل فاطمة إن كانت راغبة في تلك الجواهر ليردّها عليها، فأجابته وهي الرزان المصون: فإني لا أشاؤه.. طبت عنه نفساً في حياة عمر، وأرجع فيه بعد موته، لا والله أبداً.

فلما رأى ذلك يزيد قسمه بين أهله وولده.

وهكذا آثرت فاطمة حياة التقشف والكفاف حتى ليؤثر عنها، أنها كانت تعمل بيدها، وتخيط ثيابها ...وتقوم على مشاغل بيتها تاركة حلل الدنيا ونعيمها الزائل، مؤثرة رضا زوجها الزاهد الذي قادها –بإذن الله- إلى طريق الجنة ونعيمها الخالد  (2) .  

 

بقلم / د. شادن أبو صالح

 


(1) الغالية: أخلاط من الطيب، اللسان مادة / غ ل ا .

(2) انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى، 5/393، دار صادر، وابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، 290،296، دار الفكر، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 5/132،134، مؤسسة الرسالة.

 



بحث عن بحث