المدارس النسائية في العصور الأولى (4-4)

 

تابع/ مدرسة عائشة رضي الله عنها :

ثالثا: كانت رضي الله عنها تعتمد على الجمع بين الأدلة وفهم مقاصد الشريعة وعلوم اللغة العربية .

عن مسروق قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلاَثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ مَا هُنَّ قَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلاَ تَعْجَلِينِي أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ) ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ). فَقَالَتْ أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِى خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ». فَقَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ) قَالَتْ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ). قَالَتْ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِى غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ )(1).

وعن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال : ... لما أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول وا أخاه وا صاحباه فقال عمر رضي الله عنه يا صهيب أتبكي علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) ، قال ابن عباس رضي الله عنه: فلما مات عمر رضي الله عنهما ذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فقالت: رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم  إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال ( إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه ) . وقالت: حسبكم القرآن { ولا تزر وازرة وزر أخرى } . قال ابن عباس رضي الله عنه عند ذلك والله هو أضحك وأبكى .

 قال ابن أبي ملكية: والله ما قال ابن عمر رضي الله عنهما شيئا(2) .

 و عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قَالَ قُلْتُ: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قَالَ فَقُلْتُ: فَوَ اللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا أَوَّلْتَهَا كَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ عِنْدَ الْمُشَلَّلِ وَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لَهَا تَحَرَّجَ أَنْ يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ بِهِمَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطَّوَافَ بِهِمَا)(3)

 راًبعا : كانت رضي الله عنها تعرف أدب الخلاف ، كيف لا وقد تعلّمت على يدي معلم ونبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم ، فتأمل القصتين التاليتين واكتسب منهما هذا الأدب ؛ عن عروة بن الزبير قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ مُسْتَنِدَيْنِ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَإِنَّا لَنَسْمَعُ ضَرْبَهَا بِالسِّوَاكِ تَسْتَنُّ - قَالَ – فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَعْتَمَرَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم  فِى رَجَبٍ ؟ قَال: نَعَمْ. فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيْ أُمَّتَاهُ أَلاَ تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟! قَالَت: وَمَا يَقُولُ ؟ قُلْت: يَقُولُ اعْتَمَرَ النَّبِيُ -صلى الله عليه وسلم- فِى رَجَبٍ. فَقَالَت: يَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَعَمْرِي مَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَمَا اعْتَمَرَ مِنْ عُمْرَةٍ إِلاَّ وَإِنَّهُ لَمَعَهُ. قَالَ وَابْنُ عُمَرَ يَسْمَعُ فَمَا قَالَ لاَ وَلاَ نَعَمْ. سَكَتَ(4).

خاًمسا : الدّقة في نقل الحديث وحفظ ألفاظه حتى لا يتغيّر المعنى ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَىِّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ يَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِىَ أَوْ أَخْطَأَ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ

 صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ « إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِى قَبْرِهَا (5)».

 سادساً :كانت رضي الله عنها إذا لم تكن تعرف الحديث اختبرت قائله ؛ فإن ضبطه قبلته وهذا الأسلوب اتّبعه نقّاد الحديث فيما بعد في نقد الحديث ونقد الرجال ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ قَالَتْ لِي عَائِشَةُ يَا ابْنَ أُخْتِي بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو مَارٌّ بِنَا إِلَى الْحَجِّ فَالْقَهُ فَسَائِلْهُ فَإِنَّهُ قَدْ حَمَلَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم عِلْمًا كَثِيرًا - قَالَ - فَلَقِيتُهُ فَسَاءَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ يَذْكُرُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ عُرْوَةُ فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم  قَالَ « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ وَيُبْقِى فِى النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالاً يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ ». قَالَ عُرْوَةُ فَلَمَّا حَدَّثْتُ عَائِشَةَ بِذَلِكَ أَعْظَمَتْ ذَلِكَ وَأَنْكَرَتْهُ قَالَتْ أَحَدَّثَكَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا قَالَ عُرْوَةُ حَتَّى إِذَا كَانَ قَابِلٌ قَالَتْ لَهُ إِنَّ ابْنَ عَمْرٍو قَدْ قَدِمَ فَالْقَهُ ثُمَّ فَاتِحْهُ حَتَّى تَسْأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِى ذَكَرَهُ لَكَ فِى الْعِلْمِ - قَالَ - فَلَقِيتُهُ فَسَاءَلْتُهُ فَذَكَرَهُ لِى نَحْوَ مَا حَدَّثَنِى بِهِ فِى مَرَّتِهِ الأُولَى. قَالَ عُرْوَةُ فَلَمَّا أَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ قَالَتْ مَا أَحْسِبُهُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ أَرَاهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا وَلَمْ يَنْقُصْ.(6)

قال النووي رحمه الله [قوله ( إن عائشة قالت في عبد الله بن عمرو ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئآ ولم ينقص ) ليس معناه أنها اتهمته لكنها خافت أن يكون اشتبه عليه أو قرأه من كتب الحكمة فتوهمه عن النبي صلى الله عليه وسلم  فلما كرره مرة أخرى وثبت عليه غلب على ظنها أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقولها أراه بفتح الهمزة وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم وأخذه عن أهله واعتراف العالم للعالم بالفضيلة](7)

سابعاً : اتّبعت رضي الله عنها أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والتحدث عموماً وهو التأني وعدم التعجل والإكثار . فعن عُرْوَةُ بْنَ الزُّبَيْرِ عن عَائِشَةَ أنها قَالَتْ له : أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يُسْمِعُنِى ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِىَ سُبْحَتِي وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ.(8)

قوله ( لم يكن يسرد الحديث كسردكم ) أي يكثره ويستعجل فيه(9) .

وأخيــــــــرا،، قال الله تعالى ( واتقوا الله ويعلمكم الله ).

                                                بقلم / د . إلهام بدر الجابري


 


(1) أخرجه مسلم باب معنى قول الله ( ولقد رآه نزلة أخرى ) ح457-1/110 .

(2) أخرجه البخاري باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)ح 1226-1/432 .

(3) أخرجه البخاري باب وجوب الصفا والمروة ح25112-42/48 .

(4) أخرجه مسلم باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن ح3095-4/60 .

(5) أخرجه مسلم باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه ح2199-3/44 .

(6) أخرجه مسلم باب رفع العلم وقبضه ح6974-8/60 .

(7) شرح النووي 16/225 .

(8) أخرجه مسلم باب من فضائل أبي هريرة ح6554-7/167 .

(9) انظر : النهاية في غريب الحديث والأثر 2/909 ، شرح النووي 16/54 .



بحث عن بحث