الآداب عند الخلاف (2-7)

 

أدب الكلام ؛ فالإسلام يحث على طيب الكلام ولطف التعبير مع الناس أجمعين ، فإن الشيطان يتحين زلات اللسان حتى يفرق بين المسلمين ، والمؤمن طيب الكلام دائماً ، يختار من الكلام أطيبه كما يختار أطايب الثمر ، قال الله تعالى في وصف المؤمنين ( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد )(1) ؛ وهو طيب الكلام مع إخوانه وأصدقائه ؛ لأن طيب الكلام سبب لثبوت المودة ، واستمرار الصحبة ، ودحر لكيد الشيطان الذي يتربص به وبإخوانه يريد أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء قال سبحانه ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً )(2).

وهو طيب الكلام مع خصومه من إخوانه المسلمين ؛ لأن الكلمة الطيبة تسل سخيمة الصدر ، وتطفئ نار الغل والحسد ، قال سبحانه (  ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )(3).

 وهو طيب الكلام حتى مع الذين لا يتأدبون بأدب الإسلام ، ولا تؤمن غوائل ألسنتهم ، لأن في طيب الكلام معهم كفا لشرورهم ، وسلامة من بذاءة ألسنتهم ، فيداريهم ويحلم عنهم طلباً للسلامة قال سبحانه في وصف المؤمنين ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً )(4) وقال سبحانه أيضاً ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين )(5)

وطيب الكلام مع الجاهلين والسفهاء ومداراتهم من الدين دفعاً لشرهم ، وتلييناً لقلوبهم فعن عائشة رضي الله عنها أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : ( ائذنوا له ، فبئس ابن العشيرة – أو أخو العشيرة – فلما دخل ألان له الكلام . فقلت له : يا رسول الله ، قلت ما قلت ، ثم ألنت له في القول . فقال : أي عائشة ، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه – أو ودعه – الناس اتقاء فُحشه )(6) .

قال ابن حجر رحمه الله :[ قال ابن بطال : المداراة من أخلاق المؤمنين ، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول ، وذلك من أقوى أسباب الألفة ، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط ، لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة ، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه ، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه ، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم ، وبالفاسق في النهي عن فعله ، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه ، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك ](7).

وهذه المداراة ليست بالأمر السهل والهيّن ؛ فإن بعضهم أُوتي من أساليب الاستفزاز ما يُعجز الحليم ، ويُحيّر العاقل ، لذا على المؤمن أن يستعين بالله ويصبر فإن كان لا بد رادّاً بعض ما يُقال له فليجتنب السيئ من الكلام قال الله تعالى ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا مَن ظلم وكان الله سميعاً عليماً ، إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفو عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً )(8).  

وليعلم المؤمن أن الله في عون العبد مادام صابراً محتسباً ، عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال :[ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر ، فآذاه ، فصمت عنه أبو بكر ، ثم آذاه الثانية فصمت عنه ، ثم آذاه الثالثة ، فانتصر أبو بكر رضي الله عنه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر ، فقال أبو بكر : أوَجدت علي يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك ، فلما انتصرت ، وقع ، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان ](9).

والمؤمن أيضاً طيب الكلام مع غير المسلمين امتثالاً لقول الله تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ...)(10)، فبالجملة الكلمة الطيبة كما أخبرها عليه الصلاة والسلام صدقة(11) .

قال ابن بطال : [ وجه كون الكلمة الطيبة صدقة ؛ أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يُعطاه ويـذهب ما في قلبه ، وكذلك الكلام الطيب فاشتبهـا من هذه الحـيثية ](12) .

 

                                                              يتبع في الحلقة القادمة

 


(1) سورة الحج آية 24  .

(2) سورة الإسراء آية 53 .

(3) سورة فصلت آية 34 .

(4) سورة الفرقان آية 63 .

(5) سورة القصص آية 55 .

(6) أخرجه البخاري ك الأدب باب المداراة بعد الناس ح6131 – 10 / 528  مع الفتح .

(7) فتح الباري 10 / 528 .

(8) سورة النساء آية 148و149 .

(9) أخرجه أبو داود باب في الانتصار ح 4896-4/274.

(10) سورة العنكبوت آية 46 .

(11) الحديث أخرجه البخاري ك الأدب باب طيب الكلام 10/448 ، ومسلم ك الزكاة باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل معروف 2/699 .

(12) نقله عنه ابن حجر في فتح الباري 10 / 449 .



بحث عن بحث