الخلق مع الله تعالى ( 7-9)

ولهذا التعظيم علامات هي ما يلي :

1- الخوف من الله تعالى ، فإذا عظمت الله سبحانه خفت منه كلما هممت بمعصية ، وكلما ذكرته سبحانه أو تلوت كتابه ، قال سبحانه ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً )(1) ، لكن هذا الخوف خوف محب لربه مُعظّم له وكلما زاد خوفه زاد قربه منه وفراره إليه ، ولهذا يقول سبحانه ( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين )(2)، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم عند النوم إذا آوى إلى فراشه يقول ( اللهم أسلمت نفسي إليك ، وفوّضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رهبة ورغبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنيك الذي أرسلت )(3)، وهذا الخوف سبب للنجاة من النار والفوز بالجنان بشرط أن يحقق التقرب من الله والبعد عما يسخطه قال سبحانه ( ولمن خاف مقام ربه جنتان )(4) ، وقال تعالى ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى )(5)، وقال عليه الصلاة والسلام ( مَن خاف أدلج ، ومَن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة )(6).

2- سرعة التوبة بعد المعصية فهذه الصديقة بنت الصديق اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله ، فعرفت في وجهه الكراهية . تقول فقلت : يا رسول الله أتوب إلى الله ورسوله ماذا أذنبت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما بال هذه النمرقة ؟ ) قلت : اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها ، فقال ( إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون ، فيقال لهم أحيوا ما خلقتم – وقال – إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة )(7) فها هي الصديقة سارعت إلى التوبة من ذنب لم تعلمه بعد ، وهذا شأن من عظَّم الله تعالى حق التعظيم ؛ فهو سريع الندم على ما وقع منه سريع الرجوع إلى الله تعالى قال سبحانه في وصفهم ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون )(8) .

 كما أنهم لا يستهينون بالمعاصي مهما كانت صغيرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم  ( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود ، وجاء ذا بعود ، حتى أنضجوا خبزتهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه )(9) .

ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يتحرجون أشد الحرج من الوقوع في المعاصي كبيرها وصغيرها ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعرة ، إن كنا نعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات ) .

قال ابن القيم رحمه الله : [ مَن كملت عظمة الحق تعالى في قلبه عظمت عنده مخالفته ، لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة من هو دونه ، ومن عرف قدر نفسه وحقيقتها وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونفَس ، وشدة حاجتها إليه ، عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة ونَفَس ، وأيضاً إذا عرف حقارتها مع عظم قدر من خالفه ؛ عظمت الجناية عنده ؛ فشمّر في التخلص منها ](10) .

3- تعظيم أمر الله تعالى ونهيه وعدم التقدم عليه أو تقديم غيره عليه قال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم )(11) . قال عليه الصلاة والسلام ( من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن أسخط الله برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس )(12) .

ولو تأمل متأمل قول الله تعالى عن يوم القيامة ( ولا يسأل حميم حميماً ، يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه ، كلا إنها لظى ...)(13) لما قدّم على ربه ومولاه أحداً.

 

4- تعظيم شعائر الله تعالى قال سبحانه ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )(14) ومن شعائر الله تعظيم بيوت الله تعالى ، قال سبحانه ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال )(15) ، قال العلامة السعدي رحمه الله :[ أي يتعبد لله ( في بيوت ) عظيمة فاضلة ، هي أحب البقاع إليه ، وهي المساجد . ( أذن الله ) أي : أمر ووصى ( أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) هذان مجموع أحكام المساجد ، فيدخل في رفعها بناؤها ، وكنسها ، وتنظيفها من النجاسة والأذى ، وصونها عن المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسة ، وعن الكافر ، وأن تصان عن اللغو فيها ، ورفع الأصوات بغير ذكر الله ٍ](16) .

وتعظيم كلام الله سبحانه وتعالى ، بتدبره ، والإنصات لتلاوته ، والاشتغال بتعلمه ، والعمل بما فيه .

وتعظيم شأن الأذان ، برفعه أوقات الصلوات ، والإنصات إليه ، وترديده لقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن )(17) .

 وتعظيم أمر الصلاة ، قال عليه الصلاة والسلام ( فأما الركوع فعظِّموا فيه الرب عز وجل ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ؛ فقَمِن أن يُستجاب لكم )(18) ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم  في الركوع ( اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي )(19) ، قال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله : [ الدليل على عظم قدرها وفضلها على سائر الأعمال أن كل فريضة افترضها الله ؛ فإنما افترضها على بعض الجوارح دون بعض ، ثم لم يأمر بإشغال القلب به ، إلا الصلاة فإنه أمر أن تقام بجميع الجوارح كلها ، وأهل العلم مجتمعون على أنه إذا شغل جارحة من جوارحه بعمل من غير الصلاة ، أو بفكر ، أو شغل قلبه بالنظر في غير أمر الصلاة أنه منقوص من ثوابها ، ذلك أنه يناجي الملك الأكبر ، فلا ينبغي أن يخلط مناجاة الإله العظيم بغيرها ، وكيف يفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله مقبل عليه بوجهه ، فكيف يجوز لمن صدق بأن الله مقبل عليه بوجهه أن يلتفت أو يغيب أو يتفكر أو يتحرك بغير ما يحب المقبل عليه بوجهه ! ](20) .

5-    تعلق القلب بالله تعالى والافتقار إليه قال سبحانه ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد )(21) وتجرده عن الخلق ومن كل حظوظه وأهوائه ، لأنه سبحانه هو من بيده خزائن الرحمة وخزائن السماوات والأرض ، وإذا أراد شيئاً سبحانه قال له كن فيكون ، قال عز وجل في وصف عباده المؤمنين ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار )(22) فهؤلاء تعلقت قلوبهم بالله سبحانه ، وبكل ما يقرب إلى الله من الأعمال والأقوال حتى صارت حياتهم كلها لله قال سبحانه ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )(23) ، قال ابن القيم رحمه الله [ الفقر الحقيقي : دوام الافتقار إلى الله في كل حال ، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه ](24) .

 


(1) سورة الأنفال آية 2 .

(2) سورة الذاريات آية 50 .

(3) أخرجه البخاري باب إذا بات طاهراً ح 5952 -5/2326 ، ومسلم باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع ح 2710 -4/2082 .

(4) سورة الرحمن آية 46 .

(5) سورة النازعات آية 40 .

(6) أخرجه الترمذي ك صفة القيامة باب لم يسمه ح 2450-4/633 وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر ، والحاكم ك الرقاق ح 7851-4/343 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وأدلج أي سار أول الليل ، بلغ المنزل أي وصل إلى مطلبه انظر تحفة الأحوذي 7/123 .

(7) أخرجه البخاري باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء ح 1999-2/742 ، ومسلم باب تحريم تصوير صورة الحيوان ح2107-3/1669 .

(8) سورة آل عمران آية 135 .

(9) أخرجه أحمد ح22860-5/331 قال ابن حجر في الفتح 11/329 : أخرجه أحمد بسند حسن ، والطبراني في العجم الكبير ح5872-6/165 .

(10) مدارج السالكين 1/144،145 .

(11) سورة الحجرات آية 1 .

(12) سبق تخريجه .

(13) سورة المعارج الآيات من 10-15 .

(14) سورة الحج آية 32 .

(15) سورة النور آية 36 .

(16) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص569 .

(17) أخرجه البخاري ك الأذان باب ما يقول إذا سمع المنادي ح611-2/90 مع فتح الباري .

(18) أخرجه مسلم ك الصلاة باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود ح 479-1/348 .

(19) أخرجه مسلم مطولاً  ك الصلاة باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه ح771-1/534 .

(20) تعظيم قدر الصلاة ص97 باختصار ، وهو كتاب جدير بالمطالعة لمن شغله أمر صلاته .

(21) سورة فاطر آية 15 .

(22) سورة النور آية 37 .

(23) سورة الأنعام 162 .

(24) مدارج السالكين 2/439 .



بحث عن بحث