هـــــدي الرســــــول صلى الله عليه وسلم في التوجيه والفتوى  (6-14)

 

 

 

5 / تمكين المرأة من طرح السؤال والمراجعة فيه:

 

من الأسَاليب العلمية التربوية الحديثة اتخاذ أسلوب السؤال والمراجعة والمكاشفة، ومواجهة المشكلات بالحلول النافعة التي تبرز الحقيقة وتدحر الزَّيف والباطل (1) .

وتفتح للمتلقي آفاق العلم الرَّحبة، وتيسُّر له السؤال عما جهله، أو أشكل فهمه، وتمنحه حرية التفكير والنظر والمراجعة .

إن تشجيع هذا الأسلوب لابدَّ أن يكون في إطار الأدب، واحترام الآخر، والنقد البنَّاء، والسؤال المفيد الذي يثمر علمًا نافعًا .

والمتأمِّلُ في التُّراث النبوي المجيد يلتمسُ أصول هذه المبادئ العلمية الحديثة‍التي سبق إليها هذا الدين الخالص، ومارسها خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، مع أصحابه - رضي الله عنهم -!.

ومن مظاهر تحقيقه؛ الإذن للنساء بالسؤال، والاستفتاء، وسماع شكواهنّ ومعارضتهن وقضاء حوائجهن، وقبول مراجعتهن وتعزيز مشورتهن، والنظر في مشاكلهن، ومعالجتها بأنجع السبل وأصلحها .

وهذا له دور عظيم الأثر في النفوس؛ يزيدها علمًا وخبرةً واستقامة، ويضفي على القلوب الطمأنينة والسكينة والانشراح .

ويطيب لنا أن نلمح جملةً من هذه المعاني الأثيرة، في ظلال القبسات النبَّوية التالية .

المراجعة في الهبات التي تأتيه في بيت عائشة -رضي الله عنها -، خاصةً، ورغبة نسائه في الخير والهدية .

في إحدى بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتحديد في دار عائشة - رضي الله عنها - دارت رحى قصةٍ مثيرة ؟‍‍!! بما فيها من عتاب رقيق .. وخطابٍ مُلحٍّ .. وجواب فصل .. وأخيرًا مناظرة حاسمة! أنضج أحداثها لهيبُ الغيرة على عائشة - رضي الله عنها - واختصاصها بمزيد الحضوة والحبِّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه الخصوصيَّة الفريدة انعكست أصداؤها على أصحاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحوا يتحرَّون بهداياهم وتُحفهم يوم عائشة - رضي الله عنها - دون سائر نسائه - رضي الله عنهن - لتوافق تلك الهبات وقت مسرَّة النبي صلى الله عليه وسلم ومرضاته، فيزداد بهجة وأنسًا .

وكانت أم سَلمة - رضي الله عنها - أوَّل المراجعات للنبي صلى الله عليه وسلم استكثارًا للخير والفضل – تسأله أن يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان، في أي بيت آل إليه .. فلم يردّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم ! وتراجعه مرةً تلتها أخرى ..

ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ ؟! بل .. تستمر محاولات الإقناع بإرسال ابنته فاطمة -رضي الله عنها -، لعلَّ عظم شرفها، ومنزلتها عنده، أن يشفع في تحقيق حاجتهن، وبلوغ أربهن!!.. ولكن لا جدوى !!

وأخيرًا .. تنطلق إليه زينب بنت جحش - رضي الله عنها - مُراجعةً.. ومؤكِّدةً لشكواهن!!؟ وتغلظ القول ؟! فتنشده العدل في ابنة أبي قحافة !! وترفع صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة .. فسبَّتها ؟ !!!!

وهنا تكلَّمت عائشة - رضي الله عنها -، ووقعت بها فلم تلبث أن أفحمتها.

هذه الواقعة المعبِّرة تمثِّل إحدى الصُّور المؤثِّرة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته. ذقنا فيها صبره الجميل، وتحمُّله الطويل، واعتذاره الرقيق المرهف لما سمع من الإلحاف في المسألة، والإصرار على المراجعة، وما تلاه من كلمات جريئة .. لاذعة !

نعم، إنه رسولٌ من عند الله، يوحى إليه، فيتَّصل بربِّه تبارك وتعالى ...

ومن فضل الله أن كان بشرًا .. يحسُّ بمشاعر النساء، ويدرك ميولهن الطبيعيَّة لتحصيل النِّعمة، ونيل الهديَّة، والتلذُّذ بشيءٍ من متاع الحياة الدنيا، كما أنه يشعر بلواعج غيرتهن المبرِّحة.. فلا يكبت تلك المشاعر والأحاسيس! والانفعالات! ولا يخنق تلك الأصوات والمراجعات! بل .. لم يمارس أي أسلوبٍ يوحي بالقهر والضَّغط والتسلُّط.

وانظروا إلى ذي المشاعر .. والمعارضات .. والشكاوى وهي تنطلق صدَّاحةً إلى مسامعه الشريفة في أفق الأدب الرحيب والخلق العظيم .. !!

فتقف راغمة مسلِّمة أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبُّ عائشة - رضي الله عنها - حبَّا ظاهرًا .. لا يملك كتمانه .. ولا يريدهُنَّ أن يؤذونه فيها !؟ وهي التي اصطفاها ربُّها بنزول الوحي على نبيِّه صلى الله عليه وسلم وهو في كنفها ولحافها .

ألا فَلْيرضين .. ويسلِّمن لخِيرة الله عزَّ وجل، وخِيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة خليفته أبي بكر - رضي الله عنهم - .

وفي هذا السياق الوضيء نتعلمَّ دروسًا عظيمة الفائدة من خلال المبادرات النسائية في السؤال ومراجعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في طائفة من الأحكام والأمور ..

كالحدِّ في ذيول النساء، ومضاعفة جزاء الصبر على موت الصِّبيان، واستخلاف أبي بكرٍ في إمامة الناس بالصلاة .. وغيرها . ونتدبَّر منها آثارها القيِّمة؛ النفسيَّة، والعلميَّة، والفكريَّة على السائلة .

ولا يخفى أن صدور المراجَعَة وإبداء الرأي لا يُضعف وَهَجَ القداسة للنُّصوص الشَّرعية والأحكام الربَّانية، ومقام النبوَّة !! ولا يقلِّل من قيمتها، أو يُلمحُ بأدنى إشارة إلى قابلية تلك التشريعات إلى النظر والتمحيص والجدل .. كلا .. وحاشا ..

بل إنها لتكشف أصلاً مشرقًا من طبيعةِ المنهج النبوي في التعليم والتربية ومدى ما فيه من المرونة واليسر والكمال .

ومدى مضائه وحسمه أيضًا .

 


(1) يراجع : حول التربية والتعليم.

 



بحث عن بحث