هـــــدي الرســــــول صلى الله عليه وسلم في التوجيه والفتوى (4-14)

 

 

3/ الصَّدع بالحقِّ وتغييرُ المنكر

المنهج المطَّرد للنَّبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والتوجيه هو الرِّفق بالسائل والإشفاق على المخاطب، والبعد عن أسلوب التقريع والتشنيع. وهذا لا ينافي ما يُؤثر عنه من الشِّدةِ في مواطنها حينَ الموعظة والنصيحة، مع نزاهة لسانه وطيب معاملته وكريم سجاياه التي لا تنفكُّ عنه في كلِّ حال، فلا ينطق بهُجر من القول أو فاحش من الكلام أو يصدر منه الأذى لغيره(1) .

ومن خلال الدراسة الحديثية تبيّن لي المواطن والمواضع التي أنكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم بشدة وعاتب صاحبتها ، وهي :

الانحرافُ في تشريع العبادة ومنهج العقيدة.

من مقتضيات الإيمان بالله –تعالى- ولوازم الدِّيانة الامتثال التَّام للتَّكاليف التعبدية، والأحكام الشرعية، بتفاصيلها وضوابطها ومقاديرها المحكمة التي قضاها الله عز وجل وبيَّنها رسوله صلى الله عليه وسلم وجاءت بحكمة الله وفضله موافقة للفِطَر السَّوية، ملائمةً للطَّاقة البشرية، ونشاطها.

فلا يجوز لأحد من الأمة التعنُّتُ في أخذها والتَّشديد والمبالغة في أدائها، لمخالفته هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في السَّماحة واليُسر، ولما يفضي إليه من الملل والسَّأم واستثقال العبادة ومن ثمَّ قطعها.

ولذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بشدَّة وحزم على زينب بنت جحش - رضي الله عنها - إذ كانت تربط حبلاً بين ساريتين وتواصل صلاتها وتهجّدها وتطيل القيام لربها فإن فترت من ملازمة العبادة وكثرت الصلاة تعلَّقت بذلك الحبل، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حلَّه.

وأرشد الحولاء بنت تويت - رضي الله عنه - وسائر الأمة إلى قاعدةٍ رحبةٍ عظيمةٍ من قواعد هذا الدين، تسري في كافة أحكامه وشرائعه وشعائره.

تلكم هي: « خُذوا من الأعمال ما تطيقون فإنَّ الله لا يَملُّ حلى تملّوا ».

ويرى النبي صلى الله عليه وسلم  في بيته قِرامًا مصوّرًا فيغضب ويتلوَّن وجهه، ثم يتناول السّتر فيهتكه، وهو يعظ بقوله: « إنّ من أشدِّ النَّاس عذابًا يوم القيامة الذين يشبِّهون بخلق الله » !! فهذا التصوير منكرٌ عظيم وجرم خطير وإحدى الكبائر؛ بما تنطوي عليه من تمثيل المخلوق الضعيف بخالقه سبحانه ومضاهاة ربه، ولأن الصور تعبد من دون الله سبحانه وتُضلُّ بفتنتها.

ارتكاب الفواحش وانتهاك الحرمات :

منذُ أن استقرَّت العقيدةُ الصحيحة في النفوس، واطمأنت بها القلوب أصبح لسلطانها نفوذٌ عظيم يقهر شوارد الجاهلية الضالة، وأرجاسها المقيتة، ويصون الجماعة الإسلامية من الفواحش والفساد الأخلاقي، وانتكاسات الفطرة .

ولوقاية المجتمع من هذه الشرور كان منهج الكتاب والسنة هو الأمر بالتحرزُّ من مقاربة أسبابها، والبعد تمامًا عن دوافعها .

وللوقوف على هذا المعنى الحكيم يجدر بنا أن نعرج إلى مشكاة النبُّوَّة لنستضيء بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في حفظ الحرمات وصيانة الحدود والغيرة الشديدة عليها .

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته عند أم سلمة وأخيها عبدالله، وفيه مخنَّث لم تشعر به، وإذا به يغري عبدالله أن ينكح ابنة غيْلان لأنها « تقبل بأربع وتدبر بثمان » !!.

ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا العرض السَّافر والوصف الفاضح، الذي يهيج الغريزة ويزين المعصية فتثور غيرته ويغضب بشدة، ويعالج الموقف بحزم .

فيمنع دخول هذا المخنَّث وأمثاله بيوت المسلمين .

ويوصي قائلاً: « لا يَدْخُلنَّ هؤلاء عليكم ». فطردهم من البيوت، ومنعهم من الاطلاع على العورات أحد السدود المنيعة والحواجز الثابتة للحماية من الوقوع في مستنقع الفاحشة .

تمزيق أواصر المحبَّة والترابط بين المسلمين :

المجتمع المسلم الذي أنشأه الإسلام وربَّاه هديُ القرآن، هو مجتمع متوادٌّ متكافلٌ متحابٌّ، يتمتع الفرد فيه بالأمن على نفسه وماله وعرضه، وينعم بمعاني الأخوة والتراحم والتضامن وغيرها من المعاني الطيبة التي تحققها العقيدة الصافية .

وأيُّ آفة يمكن أن تجتاح هذا النسيج المترابط أو تعصف بذلك الكيان الواحد فإنها تحاصر بقوّة وتحارب بلا هوادة، ليبقى المجتمع نظيفًا عفيفًا متماسكًا.

وإن من تلك الآفات المهلكة؛ الغيبة، التي حذّر منها القرآن الكريم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ  ) (2)

لقد جاء التعبير في النهي عنها بأسلوب عجيب مبدع، تتأذى منه النفوس، وتشمئز لمنظره الفظيع، وهو يتناول لحم أخيه ميتًا !! فيكره ويأنف هذا المشهد ويكون أشد كراهية للغيبة (3)

وفي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التنفير بشدة من جريمة الغيبة بهذا الأسلوب البليغ المؤثر !

فلمَّا اغتابت عائشة - رضي الله عنها - ضرّتها صفية - رضي الله عنها - بقولها: حسبك من صفية كذا وكذا (تعني قصيرة) قال لها النبي صلى الله عليه وسلم مُنِكِرًا ومؤدِّبًا: « لَقَد قلتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماءِ البَحْرِ لَمزَجَتْهُ ».

يا له من لوم عنيف ؟‍! وتشبيه مخيف ؟! يصوِّر خطر هذه الكلمة الصغيرة ؟! بل هذا الإثم العظيم بحال اللّوثة الخبيثة الفتَّاكة والدَّنس المبير العاتي الذي من شأنه أن يعكِّر بحرًا هائلاً تمتدُّ آفاقه وتغور أعماقه .


(1) ينظر: تأملات دعوية، (ص86) .

(2) سورة الحجرات، الآية: 12 .

(3) ينظر: في ظلال القرآن، (6/3347) .

 

 



بحث عن بحث