هـــــدي الرســــــول صلى الله عليه وسلم في التوجيه والفتوى (2-14)

 

 

1 / التحلِّي بمكارم الأخـــلاق

القدوة نبيُّ الرفق والرحمة :

الأمة بحاجة ماسَّة إلى ترسيخ كثيرٍ من القيم والمبادئ الأخلاقية الكريمة.

وهي –في ذات الوقت- محتاجةٌ إلى التَّطهُّرِ من أردان الطباع الفاسدة والسُّلوكيات الضالَّة .

وفي ظلال الوحي نستبصر الآيات والأحاديث النبوية الشريفة المعينة على هداية هذه الأمة، واستقامة منهجها، وصلاح أمرها في الدنيا والآخرة، والنهوض بها لتكون خير أمةٍ أُخرجت للناس .

والمتأمِّلُ في الخطاب القرآن يجده داعيًا إلى ضرورة اقتران القول بالعمل، واستثمار النصائح والمفاهيم الخلقية المجرَّدة في ميدان الحياة العمليَّة .

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )(1) .

نعم، إنَّ أبلغ خطاب للدعوة إلى الفضائل وترسيخ مكارم الأخلاق من رفق ورحمة وحلم ونحوها أن تترجم إلى واقع عملي مشاهد في المعاملة والسلوك والهيئة .

فتنطق اليد بالسخاء والجود، وتحكي تباشير الوجه وانبساط أساريره مشاعر البهجة واللطف والسماحة، ويشهد السلوك المستمرّ معاني الرحمة والرفق والسجايا الفاضلة .

كثيرٌ من الناس لا يعون القيم السَّامية والآداب الرفيعة ولا يمتثلونها إذا تلقّوها خطابًا شفهيًا مجردًا، لا رصيد له في واقع الناصح والداعية والمربيِّ...

مهما بلغت جودة الخطاب وقيمته العلمية ... لذا نجد في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته العظيمة حقيقة التأسِّي بخلق القرآن، والتَّأدُّب بآدابه القيِّمة، والتقاءُ طبيعته الخيِّرة، المباركة، بطبيعة الرسالة، وحقيقتها في الأدب واليُسْر والسَّماحة .

ولقد أدرك أصحابه الكرام - رضي الله عنهم - ما منحه الكريم سبحانه من أدب جمٍّ، ولين الجانب وطيب الكلمة ورقَّة القلب وطلاقة الوجه .. وعلموا أنها مواهبٌ وأخلاق أصيلة لا تنفك عنه في أحلك المواقف وأعتى الأحوال .. إنهم لمسوا عن قرب هذه المعاني الإيمانية الجليلة في رحلة السفر التي فُقِدت فيها قلادة عائشة - رضي الله عنها - وفقد بعض الصحابة صبره ورباطة جأشه !.

والحبيب صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يلقِّنهم بحلمه وصبره الجميل أبلغ الدروس والآداب! .

إلا أنه القدوة الصالحة والأسوة الحسنة التي تطلبها الأمة، وتحتاجها بشدة لاقتفاء السنن النبوية الراشدة، واتباع صراط الله المستقيم .

قال تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) (2) .

كان مبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مجتمع جاهليِّ أبرز سماته الخلقية القسوة والجفاء، والظلم والاعتداء، فاستطاع بحسن سجاياه، وطيب معاملته ودماثة خلقه أن يُفَجِّر في نفوس أصحابه القاحلة ينابيع الحبِّ والرحمة واللين والرأفة .

هلُمَّ بنا إلى رياض السِّيرة البهيجة لننعم بذلك العبق الشَّذي في اللقاء النبوي الأبوي الحاني بالطفلة (أم خالد) .

ألا تُسَر لمداعبة النبي صلى الله عليه وسلم لتلك الصغيرة ومؤانستها وإهدائِه لها حلَّةً جميلةً زاهيةَ الألوان؟! ليبدو مظهرها أكثر تألُّقـًا وبهاءً، فتفرح بروعةِ أعلامها وثناء الحبيب صلى الله عليه وسلم عليها، فتزدادُ سعادةً ونشوةً وحُبورًا ، وإذا بها تنطلق مدفوعة - برضى النبي الكريم - إلى ظهره لتلعبَ بخاتم النبوة بين كتفيه. فينهاها أبوها بغلظةٍ لتكفَّ عن اللعب والعبث الذي لا يليق بمقام النبوَّة .

فيمنعه سيَّد المرسلين صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله « دعها ».

إنها كلمةٌ ذاتَ معنىً عميق ومغزىً بعيد .. ألا وهو إشاعة روح الرحمة والشفقة على الصِّغار وإدخالُ السرورِ إلى قلوبهم ... واجتذابهم لمحبةِ النبي صلى الله عليه وسلم والقرب منه .. وتعويدُ الأباء على الصَّبر على سَفَهِ الصِّغار وإقالة عثراتهم وإشباع حاجتهم إلى اللعب واللهو مع الدعاء لهم.

وفي الوقت نفسه أراد أن يستلَّ من الآباء جذور القسوة وإزدراء البنات !!

وظل الحبيب صلى الله عليه وسلم في -رحلة الدعوة- يهدي ويهذِّب ويربِّي، وشيئًا فشيئًا تتوارى آثار البيئة الصَّلفة، وتصفو رواسبها العكرة، وتزكو النفوس وتستشرف القلوب آفاقًا أعلى وأنقى من الرِّفق والشفقة والإحسان وغيرها من معاني الإيمان .

حينما نتحدَّث عن صفة الرحمة والرفق في أفقها الأسمى وصورتها الفضلى فلن نملك لغةً أفصح بيانًا، وأصدق منطقًا من ذلك الجواب النبوي العذب، الرحيم وهو يلاقي امرأة ضعيفةً تسأله أن يقضي حاجة لها .. فيحتفل لشَأنها قائلاً بتواضع وإشفاق غامر ..

« يا أُمَّ فلان، اجلسي في أيِّ السككِ شئِت حتى أقضيَ لك حاجتَكِ ؟!! ».

لعمري .. إنَّ سامع هذا الكلمات لأول وهلة ليشعر أنَّ قائلها هو صاحبُ الحاجة، يستعطفِ بخطابهِ الحنونِ تلك السائلة، لتصغي إليه، فيعجبُ لغايةِ اللُطفِ فيهِ ؟!!

كيف به، ومصدرهُ نبيٌّ اصطفاه ربه عزَّ وجل بالرسالة، وشرَّفه بتلقِّي الوحي الأمين، وختم به المرسلين، يصلِّي عليه اللهُ وملائكتُه وصالح المؤمنين !!

إلى غير ذلك من الكراماتِ والمعجزات والخصائص، يستجيب لمسألةِ امرأةٍ حيثُ طابَ لها المقام !!

ويبلغ الرفق منتهاه عندما يجيئه رهطٌ من اليهود فيعتدون عليه في التحيَّة ويدعون عليه بالموت .. بقولهم « السام عليكم » فيحلم عن جهلهم وإساءتهم ويكتفي بقوله «وعليكم»دون سبِّ ولوم وتعنيف ‍!

لأن الله رفيق يحبُّ الرفق في الأمر كلِّه ..

إنَّ نَسمات الرَّحمة الزكيَّة وفيوضاتها النديّة النبوية لا تغشى الناس فحسب بل تمتد آثارها الطيبِّة إلى الحيوان والنَّبات ... !

ولا غرو ..

ألم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الضَّعينة التي ضجرت من ناقتها فلعنتها !؟

فعاتبها النبي صلى الله عليه وسلم وعاقبها بالنزول عنها، ووضع ما على الدابة من المتاع وحلِّها ؟!!

وهل ننسى نحيبَ تلك النَّخلة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطبُ عندها، ثمَ استبدل بها المنبر، فصاحت النخلة حتى كادت أن تنشقَّ، فيسرعُ الحبيبُ محمد صلى الله عليه وسلم ويضمُّها إليه بحنان غامر وعطف ظاهر، فجعلت تئنُّ أنين الصَّبِي الذي يسكَّت حتى هدأت واستقرَت ؟!!

نبيُّ التواضع والصَّبر :

التواضع واللين وخفض الجناح للمؤمنين من أشرف الأخلاق النبيلة .

والصبر سيِّد الفضائل؛ لما فيه من ضبط النفس وتحمّل الأذى وتجرّع المرارة بسعة صدر ورضى.

وفي منهج القرآن الكريم وأكناف السنة المطهَّرة تربيةٌ مثاليَّةٌ للنفس البشرية تُحيي فيها مشاعر التواضع والتودُّد، الصبر والآباء وتصونها من إغراء الهوى وإغواء الشيطان بالتكبر والاستعلاء والعُجْب والخيلاء، فتسعى لقطع أسبابها وسدِّ ذرائعها، لتزكو النفس وتخبت وتصفو.

« وذلك من أوكد أسباب الشرف والكرامة والعزّ، وأبلغ شافع إلى القلوب، يعطفها للمحبَّة وليثنيها عن البغض» (3)  ويعرج بها إلى مراقي الفلاح .

وفي موكب الأحاديث النبويَّة الشريفة تقابلنا نماذج فذَّة من التواضع وخفض الجناح.. والصبر واليقين فها هو ذا – عليه الصلاة والسلام – يداعب الأطفال ويعالج الصبيان ويسأل عائشة عن لُعَبها ويسرِّب إليها وصويحباتها .

لقد أكل من طعام الأعراب .. ولبَّى دعوة الخيَاط وقبل هدايا النساء ، ورحَّب بالسائلات .

وكان يخالط أصحابه ويغشى بيوتهم ويشاركهم أفراحهم .. تقول الرُّبيعّ - رضي الله عنها - بفخر واعتزاز : «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عروسٌ فجلس على فراشي ..».

وينام في دار أم سليم على فراشها –وليست فيه- فيستنقع عرقه على قطعة أديم، فتنشِّفه وتعصره في قواريرها !!

إيهٍ .. ما أصبره وأحناه ؟! كم كان يجيب من اشتكى له وأتاه ؟!!

وكم كان يدعو لأصحابه ومن سأل دعاه ؟! فتبقى آثار دعواته إلى دهرٍ يمتدُّ مداه..؟!

سلوا أسامة بن زيد كيف علَّمه الحبيب صلى الله عليه وسلم وربَّاه ؟! حتى إنَّه لينحِّي بيده الكريمة قذره وأذاه !! .

ودعى لذاك الصَّبي ورقاه من المسِّ حتى كشف الله – عز وجل - بلواه !! .

واحتفى بزينة الجارية، وحسن هندامها فامتدحها بقوله: «هذا سناه . هذا سناه »!

وربِّكم ؛ أي تعبير يفي بجميل صبره مع أزواجه حين تثور كوامن الغيرة وتهيج لواعجها، فيحلم ويصفح ويصطبر فيكونُ خيرَ الناس لأهله، وخيرَهم لذوي قرابته وأصحابه وجيرانه.. !

حقًا .. إنها لمسات حانيةٍ.. وصِلات لطَيفة .. وومَضات برَّاقةٌ تفتح مغاليقَ القلوبِ لمحبَّته، وتشرح الصدور لتنفذ إليها أنوارُ الخير والمحبَّة الهداية .

هكذا كانَ محمَّدٌ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم .. وهكذا كانتِ حياته مع النَّاسِ .. !؟ ما غضبَ لنفسه قطّ !! ولا ضاق صدره بضعفهم البشري أو تبرَّم لقصُورهم وجهلهم ..

وما احتجز لنفسه شَيئًا من أعراض الحياةِ .. بل وهبهم كلَّ ما ملكت يداه في سَماحة نَديّة .. ودعوات رضيّة.. ووسعهم ببرِّه وعطفه ومودَّته وتواضُعِه .. وما رآه أحد أو عاشره إلا امتلأ قلبه بحبِّه، وفداه بنفسه وأهله وماله !!

إنَّه الرحمة المهداةُ للعالمين .. ولو كان فظَّـًا قاسي القلبِ ما تألّفت له القلوب، ولا تجمَّعت حوله المشاعر .

فالناس بحاجة إلى كنفٍ رحيم، ورعاية فائقة، وبشاشة سمحة .. بحاجةٍ إلى حلمٍ وصبر يَسَعَهم ولا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. بحاجةٍ إلى قلبٍ كبير، يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، يحمل همومهم ولا يعنيهم بهمِّه .. يجدون عنده –دائمًا- الاهتمام والرعاية والعطف والرحمة.. والمودَّة والرضى .

إن البشرية اليوم لفي أمسِّ الحاجة إلى تلقيّ تلك السيرة وهداها .. وإحساس هذه الرحمة ونداها .. وهي قلقة حائرة في متاهات المادية .. وجحيم الحروب وجفاف الأرواح والقلوب(4)

 


(1) سورة الصف، الآيتان: 2-3 .

(2) سورة الأحزاب، الآية: 21 .

(3) ينظر: أدب الدنيا والدين، ص (207) .

(4) يراجع في ظلال القرآن (ص501) .

 



بحث عن بحث