حديث :(أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ )

 

 

 

 عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ مَيْمُونَةُ، فَأَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « احْتَجِبَا مِنْهُ » .

فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَيْسَ أَعْمَى لاَ يُبْصِرُنَا وَلاَ يَعْرِفُنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ ؟ » . (1)

من فوائد الحديث :

1/ استدل بهذا الحديث على أنه يحرم على المرأة النظر إلى الرجل، كما يحرم على الرجل النظر إلى المرأة .

وهو أحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد – رحمهما الله -.

قال النووي – رحمه الله -: وهو الأصـح، الذي عليه الجمهور وأكثر الصحابة، وقال القاضي عياض – رحمه الله -: لا يختلف أن على النساء من غض البصر عن الرجال (مثل) ما على الرجال من غضه عنهن (2) .

- كما نصَّ الله تعالى عليه، فقال: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا  ) (3)

وأمر الكلَّ بذلك، ولأن الفتنة مشتركة، وكما يخاف الافتتان بها، تخاف هي الافتتان به .

وذهب جماعةٌ من أهل العلم إلى أن حديث أم سلمة لا يلزم منه منع الجواز مطلقًا.

واستدلوا :

1 – بحديث فاطمة بنت قيس، وهو صحيح، رواه مسلم بسنده عن أبي سلمة، أنه قال: سَألتُ فاطمةَ بنتَ قَيْس، فأَخْبَرتني أَنَّ زَوجَها المخزُوميَّ طَلَّقَها، فَأَبى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْها، فَجاءَتْ إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخْبَرَتْهُ، فَقَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم  :(لاَ نَفَقَةَ لكِ، فَانْتَقِلي فَاذْهَبِي إلى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكُوني عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ )  (4)

وعلَّق أبو داود في سننه على حديث أم سلمة بعدما رواه فقال: هذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم  خاصَّة فقال: ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أمّ مكتومٍ .ا.هـ.

قال القاضي عياض – رحمه الله -: في حديث نبهان اختصاص بزيادة حرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنهن كما غلّظ الحجاب على الرجال فيهن، غلّظ عليهن في حقّ الرجال أيضًا، لعظم حرمتهن. ا.هـ (5) قال تعالى (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً  )(6) ، قال الأثرم للإمام أحمد – رحمهما الله -: كان حديث نبهان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم  خاصة وحديث فاطمة لسائر الناس؟ قال: نعم. (7)

قال ابن حجر – رحمه الله -: وهذا جمع حَسَنٌ – بأن يكون حديث أم سلمة خاصٌ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث فاطمة عامٌ لجميع النساء (8)

وقال بعض العلماء : لعلَّ الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم الأعمى، لمظنَّة انكشاف شيء منه وهو لا يشعر، فالأمر بالغض من البصر احتياطًا لستره، أو أنه محمول على الورع والتقوى .

ومما يدل على الجواز مطلقا :

2 – حديث عائشة في نظرها إلى الحبشة وهم يلعبون يوم العيد، فما انصرفت حتى شبعت.

قال السَّيوطي – رحمه الله -: كان النظر إلى الحبشة عام قدومهم سنة 7هـ ولعائشة يومئذ (16) سنة، وذلك بعد الحجاب، فيستدلُّ به على جواز نظر المرأة إلى الرجل. ا. هـ

3 – قال ابنُ حجرٍ – رحمه الله -: ويؤيد الجواز استمرار العمل على جواز خروج النِّساء إلى المساجد والأسواق والأسفار، مستترات، منتقبات لئلا يراهن الرجال، ولابد أن يقع نظرهن عليهم، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدلّ على مغايرة الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتجَّ الغزالي (9)

4 - وقال ابنُ عبد البرِّ – نقلاً عن بعض العلماء -: حيث فاطمة بنت قيس صحيح الإسناد والحجة به لازمة، وحديث أم سلمة لا تقوم به حجة، لأنه من رواية نبهان مولى أم سلمة وهو مجهول، لم يرو عنه غير ابن شهاب الزهري .

روى عنه حديثين لا أصل لهما أحدهما هذا والآخر حديث المكاتب (10) (11) .

والراجح - والله أعلم -: استحباب غض المرأة بَصَرَها وإرخاء طرفها عن الرجال الأجانب مطلقًا، وكراهية إطلاقه في وجوه صور الأجانب وأبدانهم .

ويستثنى من ذلك النظر المعتاد الحادث لوقوع النظر على المنظر اتفاقًا للوهلة الأولى.

أما النظر المحرّم فهو النّظر في محاسن الرجل الوسيم وتمعُّن ملامحه وتتابع اللحظ فيه مرة تلو الأخرى فهذا النظر المذموم شرعًا، لما يورث من الفتنة والتعلُّق، ونزع الحياء .

وهذا النظر قد يكون سبيلاً إلى الهوى والفاحشة ولذا كان الأمر بخفضه وغضه تقدمة للأمر بحفظ الفروج كما في قوله تعالى (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى  ) (12)، فالأمر المحرِّم للنظر هو خوف الفتنة، فإن كان فيه فتنة حرِّم وإلا كُرِه .

وأمر فاطمة بنت قيس بالاعتداد في بيت ابن أم مكتوم ليس فيه رخصة لها في النظر إليه، بل غاية ما دلّ عليه أنها آمنة عنده من نظره – لعماه - ونظر غيره .

- فلا يغشاه أصحابه ولا يخشى عليها عنده ما يخشى عند غيره، وهي مأمورة بغضِّ بصرها عنه فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقّة، بخـلاف مكثها في بيت أم شريك التي يتردد عليها الصحابة لصلاحها وحبها المعروف وقرى الضيف (13)

وربما كان أمر فاطمة بنت قيس بالاعتداد عند ابن أم مكتوم محمول على الضرورة فليس ثمة غيره ولا ضرورة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم  في النظر إليه .

وحديث أم سَلمة صحيحٌ، وأكثرُ ما علِّل به حديثها انفراد الزهري بالرواية عن نبهان.

وليست بعلة قادحةٍ، فإن من يَعْرفُهُ الزهريُّ ويصفُهُ بأنهُ مكاتبُ أمِّ سلمة ولم يجرحَهُ أحدٌ لا تردُّ روايتُهُ .

قال النَّووي – رحمه الله -: ولا يلتفتُ إلى قدح من قدحَ فيه بغير حجّة معَتمدة .

2/ قال ابن قيم الجوزية – رحمه الله - : لغض البصر عن ما حرَّم الله ثلاث فوائد عظيمة الخطر جليلة القدر:

إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته التي هي أحلى وأطيب وألذّ مما صرف بصره عنه، وتركه لله تعالى، فإن من ترك شيئًا لله عز وجل عوّضه الله خيرًا منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب، فيبعث رائده لنظر ما هناك فإذا أخبره بحسن المنظور إليه، تحرّك اشتياقًا إليه، ومن أطلق لحظاته دامت حسراته .

فإن النظر يولِّد المحبة، فتبدأ علاقة يتعلّق بها القلب، للمنظور إليه، ثم تقوى فتصير صبابة ينصبٌ إليه القلب بكلِّيَّتِهِ، ثم تقوى فتصير غرامًا يلزم الفؤاد كلزوم الغريم، ثم عشقًا.. إلى أن ينتهى إلى التَّتيم، وهو التَّعبدُّ، فيكون عبدًا، أسيرًا لمحبوبه بعد أن كان خالص العبودية لله..

كامل الملك، حرَّا، وهذا كلّه من جناية النظر.

الفائدة الثانية :

نور القلب، وصحة الفراسة، قال تعالى –عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  )  (14)  وسرُّ هذا أن الجزاء من جنس العمل، فمن غض بصره عمّا حرّم الله وأمسك نور بصره عن المحرمات، أطلق الله نور بصيرته، فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق، كما هي عليه، وإن صدئت كان علمه وكلامه من باب الخرص والظنون.

الثالثة :

قوّة القلب وثباته وشجاعته، فإن الله جعل العزَّ لمن أطاعه والذلّ لمن عصـاه، قال تعالى:  (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ  ) (15)  فيهرب منه الشيطان ويفرق منه لأنه سدّ طريقه وأغلق مجراه، والآخر يستهويه الشيطان ويهينه ويتسلط عليه (16) .

3/ وفيه اجتماع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم  ، وتحدّثهن، وتزاورهن، ومراجعتهن رسول الله صلى الله عليه وسلم  حين أمر بالحجاب من الأعمى، وامتثال أمره وقوله عليه الصلاة والسلام .


(1) رواه أبو داود – واللفظ له – (1523 ح4112)  و الترمذي (1931 ح2878) والنسائي في الكبرى، (5/393 ح9241) و(5/393 ح9242) بلفظ: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأنا وميمونة جالستان، فجلس فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى .. » الحديث بمثله .

إسناده صحيح، وما يحتمل من الوهم – القليل في رواية يونس بن يزيد عن الزهري – زال بمتابعة عقيل بن خالد.

قال عنه أبو زرعة: ثقة صدوق، وقال أحمد بن حنبل: ثقة وذكره ابن حبان في الثقات، وقيل لأبي حاتم: أيُّهما أحبُّ إليك يونس أو عقيل؟ فقال: عقيل لا بأس به .

فقيل له أيهما أحبُّ إليك عقيل أو معمر ؟ فقال: عقيل أثبت، كان صاحب كتاب، وكان الزهري يأتي أيلة لضيعةٍ له، فيكتب عنه هناك .

قال الذهبيُّ: أحد الأثبات .

وقال الترمذي – رحمه الله - : هذا حديث حسن صحيح .

وقال النووي – رحمه الله -: الحديث حسن ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجّة معتمدة .المنهاج (10/336)

وقال ابن حجر – رحمه الله -: إسناده قوي، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة وقد وثِّق ولم يجرحه أحد لا ترد روايته.فتح الباري (9/421)، تلخيص الحبير (3/148) .

(2) ينظر لهذه الفائدة : تأويل مختلف الحديث (ص225)، التمهيد (19/155 ) إكمال المعلم (5/57)، المنهاج (10/336)، المغني (7/80، 81)، تفسير ابن كثير (3/284)، المهذب (2/34)، شرح الزرقاني (3/268، 269)، نيل الأوطار (6/241 إلى 249)، نوادر الأصول (1/195- 196- 198)، عون المعبود (6/270، 271)، (11/114- 115)، تحفة الأحوذي (4/241)، (8/51، 51).

(3) سورة النور، الآية: 31 .

(4) رواه مسلم في: الطلاق، باب المطلقةُ البائنُ لا نفقةَ لها (931 ح1480) .

(5) إكمال المعلم (5/57)، المفهم (5/2573) .

(6) سورة الأحزاب، الآية: 32 .

(7) ينظر: المبدع (7/11)، منار السبيل (2/129)، الكافي في فقه ابن حنبل (3/9)، وقال: لا يجوز النظر إلى من حرم بشهوة وتلذذ لأنه داعية إلى الفتنة. ا. هـ

(8) تلخيص الحبير (3/148)، وينظر الفتح (12/43)، وعون المعبود (11/115)، تحفة الأحوذي (8/51).

(9) فتح الباري (9/421) .

(10) رواه الترمذي (1778 ح1261) بسنده عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : « إِذَا كَانَ عِنْدَ مُكَاَتِب إِحْدَاكُنّ مَا يُؤَدِّيْ، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ » قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم على التورُّعِ، وقالوا: لاَ يُعتقُ المُكَاتِبُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ما يؤدِّيْ حتى يُؤَدِّيْ . ورواه أبو داود (1511 ح3928) والنسائي في الكبرى (5/389 ح9228) وابن ماجه (2628 ح2520).

(11) التمهيد لابن عبدالبر (19/155)، المفهم (5/2573).

(12) سورة النور، من الآية: 31 .

(13) ينظر: التمهيد (19/157)، المنهاج (10/336) شرح الزرقاني (3/268)، عون المعبود (6/270)، قال ابن العربي – رحمه الله -: أمرها النبي صلى الله عليه وسلم  بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أم شريك إذا كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان إمساك بصرها عنه أقرب وأولى فرخص لها فيه. تفسير القرطبي (12/228).

(14) سورة النور، الآية: 35 .

(15) سورة المنافقون، الآية: 8 .

(16) إغاثة اللهفان (بتصرف يسير) (1/47، 48) .وينظر: الجواب الكافي (ص125، 126، 127)، وروضة المحبين (ص92، 93، 97، 101، 102).ذكر فيها عشر فوائد لغض البصر، وهي مذكورة في غذاء الألباب لشرح منظومة الأداب (1/85).

 

 



بحث عن بحث