حديث (إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا...)

 

عن سهل بن سعد قال : جاءت امرأة ببردة _ قال سهل :  هل تدرون ما البردة ؟

قَالُوا: نَعَمْ، هَذِهِ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا – فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا لإَزَارُهُ . (1)  

المُهدِيَةُ :

 لم أقف على من عيَّنها (2)

غريب الحديث :

بُردَةٌ : (بضم الباء وسكون الراء) كساء يلتحف به، وهي الشَّملة المخطَّطة منسوج في حاشيتها أو النَّمِرة، وقيل إذ جعل الصوف شُقَّة وله هُدْب، فهو بردة، وقيل كساء أسود مربَّع فيه صِغَر تلبسه الأعراب. والجمع : بُرَدٌ بضم الباء وفتح الراء (3)

من فوائد الحديث :

1/ احتفاءُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم «بالبرُدةِ » أصلٌ في استحباب قبول الهدية، وفي الحديث: « فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم » - أي البردة - التي أهدتُه إياها تلك المرأةُ، الموفَّقةُ في حسنُ صنعتِها واختيارِ الوقت الذي كانَ فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم مُحتاجًا إلَيْهَا .

فخرجَ إلى أصحابه –رضي الله عنهم-: « وَإِنَّها لإزَارُهُ » ! .

2/ مشروعية عمل المرأة بيدها في النَّسيج والحيَاكة ونحوها مما تحتاج إليه، وصحةُ تصرفها به إهداءً أو بيعًا ونحوه .

3/ مهَارة تلك الصحابية –رضي الله عنها- في خياطة الملابس والنسيج ونحوها مع التحلي بالكرم، حيث نسجت بردةً جديدةً – لم تقطع من ثوبٍ ونحوه – ثم صنعت في حاشيتها نسجًا مخالفًا لنسيج أصلها لونًا وشكلاً، وقدَّمتها فخورة بإنجازها مرغِّبةً في اقتنائها طيبةً بها نفسها، توَّاقةً إلى رضى نبيِّها عليه الصلاة والسلام (4) .

4/ فيه سخاء النبي صلى الله عليه وسلم وسعة جوده، حيث آثَرَ غيره بما أهدي إليه، وإن كان محتاجًا إليها أكثر ممن طلبها منه، لأنه صلى الله عليه وسلم : « لا يَرُدُّ سَائلاً »(5)  . وهذا الإيثار من صفات المرسلين وخيار الصالحين المؤمنين، وهو من أشرف الصفات التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)  (6) .

5/ اختلف العلماء في تعيين السائل، فجزم القسطلاني بأنه عبدالرحمن بن عوف، وذكره ابن حجر احتمالاً، وروى الطبراني في الكبير (6/200) بإسناده عن قتيبة بن سعيد موصولاً إلى سهل بن سعد وساق الحديث وقال قتيبة في آخره: كان السائل سعد بن أبي وقاص. وأخرج البخاري والنسائي هذا الحديث من طريق قتيبة –كما تقدم- لم يذكرا ذلك (7) .

6/ توقيرُ أصحاب رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مجلسَ نبيِّهم، ومهابته فلم ينكروا على السَّائل إساءة الأدب ظاهرًا، ولم يلوموه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم خشية ارتفاع الأصوات بين يديه أو سماع ما يكدِّر عليه: « فَلَما قامَ النبي صلى الله عليه وسلم لامَهُ أصْحَابُه .. »! (8)

7/ تبرُّكُ الصَّحابةِ –رضي الله عنهم- بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خاص به عليه السلام لا يقاس عليه غيره للفروق العظيمة بينه وبين من سواه .

وسدًّا لذريعة الشرك، فالتبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله سبحانه (9) .

8/ قال ابن حجر – رحمه الله -: فيه جواز استحسان الإنسان ما يراه على غيره من الملابس وغيرها، إما ليعرِّفه قدرها، وإما ليعرض له بطلبها منه حيث يسوغ له ذلك .

كما في الرواية: « فحسَّنها فلانٌ، فقال: اكسينها ما أحسنها » (10) .

والأولى أن لا تتوق نفسه لما في أيدي الناس من النِّعم فلا تتبعها همَّته ورغبته، وإشادة ذلك الصحابي ببردة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن طمعـًا في اقتنائها لذاتها ولكن تبركًا باستعمال النبي صلى الله عليه وسلم  لها وملاصقتها جسده الشريف .

9/ وفيه من العلم مشروعية الإنكار عند مخالفة الأدب ظاهرًا وإن لم يبلغ المنكر درجة التحريم (11)


(1)  صحيح ، رواه النسائي – واللفظُ لهُ - (2427 ح5323)و أصله في البخاريُّ (496 ح5810) وفيه زيادة في آخره هي: فجسَّها رجلٌ منَ القَوِم فَقَالَ: يا رسُول اللهِ، اكْسُنِيها، قال: « نَعَمْ »، فجلسَ ما شَاءَ اللهُ في المَجْلِسِ، ثمَّ رَجَعَ فَطَوَاها ثمَّ أرسَل بها إليْهِ، فقال له القَومُ: ما أحسَنْتَ، سألتَها إيَّاهُ وقد عَرَفْتَ أنَّهُ لا يردُّ سَائِلاً، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللهِ ما سَألْتُها إلاّ لِتَكُونَ كَفَنِي يَومَ أمُوتُ. قال سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ .

(2) فتح الباري (3/184)، إرشاد الساري (3/350)، (13/ 58) .

(3) لسان العرب (3/88)، مشارق الأنوار (1/111)، النهاية (1/116)، شرح الكرماني (7/75، 76)، عمدة القاري (22/120)، إرشاد الساري (5/56).  قال القسطلاني: في تفسير البردة بالشملة تجوّز لأن البردة كساء والشملة ما يشتمل به فلما كثر استعمالهم لهم أطلقوا عليها اسمها. ا. هـ

(4) ينظر:شرح الكرماني (21/69)، الفتح(3/186)، عمدة القاري(21/312)، إرشاد الساري(12/531).

(5) ينظر: شرح ابن بطال (9/100، 231، 232)، (6/225)، فتح الباري (3/185)، عمدة القاري (8/63)

(6) سورة الحشر، الآية: 9 .

(7) فتح الباري (3/185)، إرشاد الساري (5/56)، (12/ 531) .

(8) ينظر: شرح ابن بطال (9/100) .

(9) ينظر: شرح ابن بطال (9/100)، فتح الباري (3/186)، عمدة القاري (8/63)، إرشاد الساري (3/351)، وتقدم بيان ذلك في الحديث (5) .

(10) الفتح (3/186)، عمدة القاري (8/63) .

(11) عمدة القاري (8/63) .

 



بحث عن بحث