حديث (أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا ؟!...)

 

 عَنْ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .

قَالَ : « أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا ؟! قَالَ: لاَ» .

قَالَ : « فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ » قَالَ : فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ . (1)  

 

السائلة :

هي : عَمْرَةُ بنتُ رَوَاحَة بن ثَعْلَبَة من الخزرج ، أخت عبدالله بن رواحة الذي استشهد يوم مؤتة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أميرًا على الجيش .

وهي زوجة بشير بن سعد الأنصاري ، وأمّ النعمان بن بشير –رضي الله عنهم- حملته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما ولدته ليحنكه، بايعت مع النساء، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا. هو: «وَجَبَ الخُروجُ على كُلِّ ذاتِ نطاقٍ » (2) .  (3)

غريب الحديث :

عَطِيَّةً : العين والطاء والحرف المعتل أصل واحد صحيح يدل على أخذٍ ومناولة لا يخرج الباب عنهما (4) وهي : النِّحْلَةُ بغير عوض، تبرعًا وهي أخص من الهبة (5)

من فوائد الحديث :

1/ ذهب الجمهور؛ مالك والشافعي وأهل الرأي؛ أبو حنيفة إلى أن التسوية بين الأولاد في العطية مستحبة، وإن فضّل الأب بعضًا صحَّ، وكُرِه، وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد الإضرار، وحملوا الأمر على الندب، والنهي على التنزيه .

وتمسَّك غيرهم بوجوب التسوية في العطية بينهم، وبه صرَّح البخاري، وهو قول أحمد والثوري وعروة ومجاهد وأهل الظاهر، وبعض المالكية .

ونص أحمد على أنه لا يجوز التفريق بينهم ولو رضوا بذلك، والعطية القاسطة باطلة ويجب ردها ، والحديث دليل على التحريم فقد سمّاها جورًا، وأمر برده وامتنع من الشهادة عليه والأمر يقتضي الوجوب، والجور يورث العداوة والبغضاء .

وقال ابن القيم – رحمه الله -: من العجب أن يحمل قوله: «اعدلوا بين أولادكم » على غير الوجوب وهو أمر مطلق مؤكد ثلاث مرات، وقد أجر الآمر به أن خلافة جور وأنه لا يصح وأنه ليس بحق وما بعد الحق إلا الباطل، والعدل واجب في كل حال فكيف وقد اقترن به عشرة أشياء تؤكد وجوبه فتأملها في القصة ؟!. ا. هـ (6)  .

وهذا هو الراجح، قال النووي: الصحيح المشهور، والله أعلم .

ويجوز التفاضل إن كان له سبب لدَيْن أو مرض أو مصلحة راجحة مع رضى الباقين رجَّح هذا ابن تيمية، ورواية عن أحمد – رحمهما الله تعالى – ( 7) .

2/ اختلف أهل العلم في كيفية التسوية بين الأولاد فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم إلى أن يعطي الذكر مثل ما تعطي الأنثى، وقالت طائفة أخرى منهم : أحمد وإسحاق وعطاء بن أبي رباح وغيرهم؛ عليه أن يعطي الذكر مثلي ما يعطي الأنثى، على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم، فتقاس العطية في الحياة على الميراث بعد الموت.

والراجح والله أعلم ؛القول الأول : وهو الأمر بالتسوية الوارد في الحديث للتنصيص على (المثلية) في ألفاظ الحديث، ولأنه عطية في الحياة فاستوى فيها الذكر والأنثى كالنفقة والكسوة والبنت كالابن في استحقاق برِّها وكذلك في عطيتها ولأن لفظ الولد يشمل الذكر والأنثى فمقتضى الحديث التسوية بينهما (8) .

3/ قال أكثر الفقهاء : يجوز للوالدين الرجوع في الهبة للأولاد بخلاف الأجانب، إلا أن المالكية فرقوا بين الأب والأم فالأم ترجع في الهبة إن كان الأب حيًا دون ما إذا مات، وقيدوا رجوع الأب وهو : (الاعتصار) بما إذا كان الابن لم يستحدث دينًا أو ينكح. وهذا قول إسحاق – رحمه الله - وقال الشافعي – رحمه الله -: للأب الرجوع مطلقًا .

وقال أحمد – رحمه الله - : لا يحل لواهب أن يرجع في هبته مطلقًا (9) ، للحديث: «العائد في هبته كالعائد في قيئه » (10) .

وهذا الصحيح الراجح، وليس في الحديث ما يدل على جواز الرجوع في الهبة الصحيحة، وغاية ما فيه وجوب الرجوع فيها إن ترتب عليها جور وظلم لإعطاء أحدهم وترك الآخرين، والله أعلم .

4/ فضيلة العدل وأثره في صلاح الذريَّة والتأليف بين الإخوة، وانتظام المعاش والمعاد، والتفاضل يجر إلى التباغض والشحناء ، ومنع الحقوق سبب إلى العقوق، وارتكاب الآثام وقطع الأرحام.

وأما الميل القلبي إلى إحدى الزوجات أو الأولاد فلا حرج فيه ما لم يجرَّ جَوْرا (11) .

5/ الإشهاد مشروع للهبة وليس بواجب، وإنما هو ليعلم عزيمة المتصدق على إنفاذ ما وهبه.

وفي شهادة النبي صلى الله عليه وسلم دلالة على جواز شهادة الحكام وفائدتها إقامة العدل ورد الهبة ممن يعرف منه الميل إلى إحدى زوجاته وأولادها (12)  أو الهروب بها عن بعض الورثة .

6/ وفيه استفسار المفتي المستفتي عما يحتمل في قضية الفتوى لتصوّر أبعادها وملابساتها وفهم حقيقتها (13)، كقوله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت سائر ولدك؟ ».

7/ وصيَّةُ الرسول صلى الله عليه وسلم للآباء لتقوى الله تعالى في أولادهم والإنصاف بينهم، وندبهم إلى التآلف والتراحم والتوادِّ ونبذ الخلاف والشِّقاق .

8/ و فيه موقف بطولي عظيم لتلك المرأة الشريفة النزيهة التي عظم عليها أمر هبةٍ لابنها لا تعلم حكم الله فيها فخشيت أن يلابسها شيء من الظلم و الجور فلم تقرّ بها عينا و لم تطمئن بها نفساً حتى أرسلت زوجها يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علما حكم الله فيها بادرا إلى امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع الحق الذي حكم به كما في الحديث: « فرجع فردّ عطيّته ».

 


(1)  متفق عليه ،رواه البخاريّ – واللفظ له - (204 ح2587). و مسلم (960 ح1623) وأبو داود (1486 ح3542) وفي آخره قال بعضهم عنه صلى الله عليه وسلم : هذا جَوْرٌ »وقال بعضهم: « هذا تلجِئَة فأشهد على هذا غيري »وقال مجالد في حديثه: « إِنَّ لَهُم عَلَيْك من الحقِّ أَنْ تعدِل بينهم كما أنَّ لك عليهم من الحقِّ أن يَبرُّوكَ » و ابن ماجه (2619 ح2375) وزاد: « أَليسَ يَسُرَّكَ أَنْ يكُونُوا لَكَ في البرِّ سَواءٌ؟  قال: بَلَى، قال: فَلاَ. إذًا ».

(2)  رواه أحمد (6/358) و أبو يعلى في مسنده (13/75) 6وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/203): فيه امرأة تابعية لم يذكر اسمها، وللحديث شواهد أخرى، صحيحة .

(3)  الاستيعاب (4/1887)، أسد الغابة (6/201)، الإصابة (8/31)، الفتح (5/266).

(4)  معجم مقاييس اللغة (ص760) .

(5)  التعاريف (ص693)، فتح الباري (5/266) .

(6)   العدل في الهبة للأولاد والأقارب (ص5- 28)، تحفة المودود (ص228) .

(7)  ينظر: شرح معاني الآثار (4/87)، التمهيد (7/234)، إكمال المعلم (5/348)، اختلاف العلماء (ص275)، المغني (5/387- 388)، المنهاج شرح صحيح مسلم (11/69)، مجموع الفتاوى
(31/295)، جامع العلوم والحكم (1/63)، فتح الباري (5/267)، عمدة القاري (13/146) نيل الأوطار (6/110) .

(8)  ينظر: اختلاف العلماء (ص274- 275)، التمهيد (7/234)، إكمال المعلم (5/349- 350)، المغني   (5/388)، شرح صحيح مسلم (11/69)، فتح الباري (5/267- 268)، عمدة القاري (13/146)، حاشية السندي (6/258)، سبل السلام (3/89)، العدل في الهبة للأولاد والأقارب (ص36- 41).

(9)  ينظر : أعلام السنن (2/1281)، المحلى (9/128)، التمهيد (7/235)، إكمال المعلم (5/351، 352)، جامع العلوم والحكم (1/63)، حاشية السندي (6/258)، سبل السلام (3/90).

(10) صحيح، متفق عليه، ولفظهما واحد، رواه البخاري (206 ح2621) و مسلم (960   ح1622).

(11) ينظر: شرح ابن بطال (7/104)، إكمال المعلم (5/351)، فتح الباري (5/269)، عمدة القاري (13/147)، فيض القدير (1/557) .

(12)  ينظر : شرح ابن بطال (7/104)، إكمال المعلم (5/353)، عمدة القاري (13/147) .

(13) عمدة القاري (13/148) .

 



بحث عن بحث