حديث (لَقَدْ اغْتَبْتِيْهَا)

 

عن عائشة قالت: جاءت امرأة قصيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأنا جالسة عنده فقلت بإبهامي هكذا فأشرت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أي أنها مثل الإبهام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : « لَقَدْ اغْتَبْتِيْهَا ». (1)  

 

غريب الحديث :

اغتبتيها : الغِيبة : هي الكلام بصدق خلف إنسان مستورٍ بما يغمُّه لو سمعه تعييرًا له، وسميت بذلك لأنها لا تقال إلا في غَيْبَةٍ (2) .

من فوائد الحديث :

1/ الغيبة ذكرك - بلفظ أو كتابة أو رمز أو إشارة أو محاكاة – أخاك في الدين في غيبته بما يكره لو بلغه، في دينه أو دنياه أو خَلْقِه أو خُلُقه أو أهله أو خادمه أو ماله ونحو ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ومن جنس الغيبة الهمز واللمز فإن كلاهما فيه عيب الناس والطعن عليهم واللمز أخف من الهمز(3) .

2/ نقل القرطبي – رحمه الله - الإجماع على أن الغيبة كبيرة من الكبائر، وكذا السكوت عليها رضًا وتقريرًا ونقل الغزالي: - رحمه الله - أنها أشد من الزّنا في الإثم، لأن الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه وصاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه .

فهي من الذنوب العظام التي تحبط الأعمال (4) .

3/ التحذير من إلحاق الأذى بالمسلم والمسلمة بالقول أو الفعل أو الإشارة بغير حق (5) .

قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ) (6) .

وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)  (7) .

قال ابن بطال –رحمه الله-: والغيبة المحرمة عند أهل الستر من المؤمنين، ومن لا يعلن بالمعاصي، فأما من جاهر بالكبائر فلا غيبة فيه (8) .

4/ مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم  إلى الإنكار والتوجيه، لأن ذنب الغيبة شؤم حتى على غير فاعله، فمن سمع ورضي اشترك معه في الإثم، ومن خشي ضررًا بالنصح لزمه الإنكار بالقلب ومفارقة المجلس (9) .

5/ هل يكفي فيه التوبة من الغيبة الاستغفار أم لابد من إعلام المتكلم فيه ليسمح عنه؟

الصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه، بل يكفيه الاستغفار، والتوبة، وذكره بمحاسنه في المواطن التي اغتابه فيها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وغيره .

لأنه ليس من الحقوق الماليّة التي ينتفع بعود نظيره، بل إعلامه سيؤذيه ويوغر صدره، ولعلّه يهيج عداوته، فلا يصفو له أبدًا، وما كان هذا سبيله فإن الشارع الحكيم لا يبيحه، فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به .

ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها لا على تحصيلها وتكميلها  (10) .

6/ الجوارح نعمةٌ من الله سبحانه، وأمانةٌ عند العبد، يسخِّرها في طاعة الله ومرضاته، لا في ذكر مساوئ الناس والخوض في الباطل .. فعندها تكون نقمة وحسرة وندامة  (11) .

7/ الحث على مجاهدة النفس على الصبر عن معاصي اللسان والجوارح (من غيبة ونميمة ونحوها)، وهو من أصعب أنواع الصبر لسهولتها وقوة الداعي إليها، فربما دفعت الغيرة عائشة – رضي الله عنها - إلى التقليل من شأن تلك المرأة التي جاءت إلى زوجها ، وانتقاصِ جمالها (12) .


(1)  رواه إسحاق بن راهوية (3/921 ح1613) والبيهقي في شعب الإيمان (5/303 ح6730) و رجاله ثقات، وقال البيهقي: هو مرسل بين حسان وعائشة – رضي الله عنها - .

(2) لسان العرب (1/656)، مختار الصحاح (ص203)، النهاية في غريب الحديث (3/399) .

(3)    ينظر: مكارم الأخلاق (ص214)، إحياء علوم الدين (3/143)، فيض القدير (4/417) .

(4)    الجامع لأحكام القرآن (16/288)، شرح ابن بطال (9/245)، إحياء علوم الدين (3/141)، فيض القدير (3/129)، الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/9) .

  روى ابن أبي الدنيا في الصمت (ص119 ح164) بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  : « إياكم والغيبة، فإن الغيبة أَشَدّ من الزِّنَا، إن الرجلَ قَدْ يزني فيتوبُ فيتوبُ اللهُ عليهِ، وإن صاحب الغيبة لا يُغفرُ لهُ حتى يغفرَ لهُ صاحبهُ » .

ورواه هناد الكوفي في الزهد (2/565) بزيادة: «قالوا: يا رسول الله! وكيف الغيبةُ أشدُّ من الزِّنَا ؟ » .

(5)  جامع العلوم والحكم (ص408) .

(6)   سورة الأحزاب، الآية: 58 .

(7)     سورة الحجرات، الآية: 12 .

(8)     شرح ابن بطال (9/245)، وينظر الأذكار للنووي (ص413) .

(9)     ينظر: فيض القدير (3/570)، (6/77) .

(10)   غذاء الألباب (2/ 564) .

      (11)   ينظر: إحياء علوم الدين (الصفحة السابقة)، فيض القدير (1/455) . 

(12)   ينظر: عدة الصابرين (1/56) .


 



بحث عن بحث