حديث ( ..إن الله رفيق يحب الرفق....)

 

 

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: « اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأْمْرِ كُلِّهِ قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟

قَالَ : قُلْتُ : وَعَلَيْكُمْ » .(1)

غريب الحديث :

رَهْطٌ :رَهْطُ الرجل: قومه وقبيلته، والرَّهْطُ : عددٌ يجمع من ثلاثة إلى عشرة، وبعضٌ يقول: من سبعة إلى عشرة، وقيل: ما دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم امرأة، وقيل: ما يبلغ الأربعين ، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه (2).

السَّامُ : بتخفيف الميم، من سامَ يسومُ إذا مضى، وهو الموت لأنه ماضٍ، والسام في السريانية: الموت (3) .

وقيل السام مشتق من السَّأَمِ والسَّآمة ومعناه؛ تسأمون دينكم، وجرى تخفيف الهمز (4) .

اللعنَة : اللام والعين والنون أصل صحيح يدل على إبعادٍ (5) .

واللعنة : الاسم، وهي الدعاء عليه، وسبه وشتمه ومن لعنه الله فقد عَذَّبه، وحرمه من رحمته وخيره وجنته (6) .

الرِّفق : خلاف العنف وهو لين الجانب واللُّطف، والله سبحانه رفيق بعباده؛ من الرأفة (7) .

من فوائد الحديث :

1/ في هذا الحديث أدب عظيم من أدب الإسلام، وحض على الحلم والرفق بالكافر والصفح والإغضاء عن الجاهل وتألف قلبه ما لم تدع حاجة ومصلحة إلى المخاشنة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قائد الأمة ومتلقي الوحي من رب العالمين وهو خير من وطئ التراب ترك مقابلة اليهود بمثل قولهم، ونهى عائشة –رضي الله عنها- عن الإغلاظ في ردها والدعاء بما يقبح من السب والشتم واللعن مع أنهم أعداؤه وينعمون بالأمن في ظلال حكمه وتحت إمرته ولو شاء لعاقبهم لكنه يعفو عنهم ويذكِّر أم المؤمنين – رضي الله عنها -: « بأن الله سبحانه لا يحب الفاحش المتفحش ». ولم يكن منها إفحاش في القول فهم الذين بدؤوا الإساءة بالقول، فجازتهم عليه بما هم أهله، وإنما الفحش مجاوزة القصد في الأمور والخروج عنها إلى الإفراط، فوعظها لأن الله تعالى رفيق يحب الرفق والرأفة في الأمور كلها، وإن كان الانتصار بمثل ما قوبل به جائز لقوله تعالى : ( وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ) (8). فالصبر أعظم أجرًا وأعلى درجة .

قال تعالى: ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)  (9).

والصبر خلق النبيين والصالحين، فيستحب امتثال طريقتهم والتأسِّي بهم، وقرع النفس ومجاهدتها رجاء ثواب الله تعالى (10) .

2/ الرفق محبوبٌ مطلوبٌ في أمر الدين، والدنيا لأنه خير كله، وهو متأكدٌ في معاملة المرء نفسه به، وفي معاشرة من لابدّ منه كالزوجة والولد والخادم والتلميذ (11) .

3/ قال النووي –رحمه الله-: اتفق العلماء على جواز الردِّ على أهل الكتاب إذا سلّموا، ويقال لهم: « وعليكم » فقط، أو: عليكم. وقال غيره: هو قول أكثر العلماء، ومعنى «عليكم» بحذف الواو؛ نفي المشاركة، والإضراب، أي: بل عليكم، هو مردود عليكم .

ومعنى « وعليكم » بإضافة الواو، ردُّ تلك الدعوة عليهم وتقريرها لهم، أي: ما دعوتهم به هو بعينه مردودٌ عليكم، لا تحية لكم غيرها، إمعانًا في تأنيبهم وتأديبهم وزجرهم لئلا يعودوا لمثله، فكان لذكر « الواو » سرٌّ لطيفٌ وفائدةٌ جليلة فتأمَّلها .

وعلى هذا فإثبات الواو وحذفها جائزان كما صحّت به الروايات وإثبات الواو أجود وهو في أكثر الروايات التي رواها الثقات الأثبات (12) .

4/ قال ابن حجر – رحمه الله -: ينبغي ترك جواب المسلم بهذه الصيغة وإن كانت مجزئة في أصل الرد، لكونها مشتهرة للرد على غير المسلم (13) ، ولأنها مخالفة للهدي القرآني، قال تعالى: ( وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) (14) .

5/ الخداع صفة متأصلة في أقوال اليهود وأفعالهم، يخفونها، ويفضحهم العليم الخبير سبحانه، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (15) ، وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ )(16)  . فهم يضمرون الحقد والحسد والبغض للمسلمين، ويعبّرون عنه بتحريف لفظ التحية وهو « السلام » وحذف اللام حذفًا خفيًا، لتبدو التحيَّة بصورة بريئة، مسالمة، وفي باطنها اللؤم والكراهية، فعلى المسلم الحذر منهم وإساءة الظنِّ بهم، مع الاطمئنان بنصر الله، لأنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا فلا يضرُّونا (17)  .

6/ قال ابن القيم – رحمه الله -: تحية اليهود ليست من السبِّ الموجب حدًّا، ولو كان ذلك لشرع النبي صلى الله عليه وسلم عقوبةً لذلك اليهودي ولو بالجلد، فتركُ عقوبته يدلُّ على ترك مؤاخذتهم، ودرء الحدِّ بشبهة الاحتمال، وعدم التصريح، والمتعيّن الاكتفاء برد تحيتهم عليهم (18)  .

7/ المسُتأذِنُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطٌ من يهودٍ لم تذكر أسماؤهم، وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن زيد بن أرقم قال: « بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل رجل من اليهود يقال له ثعلبة ابن الحارث فقال: السلام عليك يا محمد، فقال: وعليكم » (19) .

8/ في موقف عائشة – رضي الله عنها - الانتصار لأهل الفضل والصلاح والذّب والدفاع عنهم(20) .

9/ فيه الداعي إذا كان ظالمًا على من دعى عليه لا يستجاب دعاؤه (21)  قال تعالى: ( قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)  (22) ، وقوله)  وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (23) .

 


(1)متفق عليه .رواه البخاري – واللفظ له – (578 ح 6927) و (537 ح6395) و مواضع أخرى ،  و مسلم (1063ح 2165)

(2)  لسان العرب (7/305)، مختار الصحاح (ص109)، الفائق (2/96)، النهاية (2/283).

(3)  لسان العرب (12/302)، مختار الصحاح (ص135)، الغريب للخطابي (1/320)، الفائق (2/144)، النهاية (2/426) .

(4)  إكمال المعلم (7/49)، أعلام الحديث (3/2176) .

(5)   معجم مقاييس اللغة (ص921) .

(6) لسان العرب (13/ 387)، مختار الصّحاح (ص250)، النهاية (4/255) .

(7)   لسان العرب (10/118)، المعجم الوسيط (1/362)، المجموع المغيث (1/783)، النهاية (2/246).

(8)   سورة الشورى، الآية: 41 .

(9)  سورة الشورى، الآية: 43 .

(10)    ينظر: شرح ابن بطال (9/225- 226)، أعلام الحديث (3/2177) إكمال المعلم (7/52)، المنهاج (14/371)، نيل الأوطار (8/77) .

(11)    ينظر: فيض القدير (2/287) .

(12)    ينظر: إكمال المعلم (7/48)، المنهاج (14/369)، بدائع الفوائد (2/403- 404)، أحكام أهل الذّمة    (1/422- 423- 424)، تفسير القرطبي (17/248)، فتح الباري (11/54)، نيل الأوطار (8/76- 77)، تحفة الأحوذي (7/399) .

(13)    فتح الباري (11/ 55).

(14)  سورة النساء، الآية: 86 .

(15)   سورة المجادلة، الآية: 8 .

(16)    سورة آل عمران، الآية: 118 .

(17)   ينظر: إكمال المعلم (7/52)، الصارم المسلول (3/1007)، فتح الباري (11/239)، في ظـلال القرآن (6/3509) .

(18)    الصارم المسلول (الصفحة السابقة)، ونيل الأوطار (7/224، 225) .

(19)    رواه الطبراني في الكبير (5/180 ح5014)، و الأوسط (7/365 ح7741)، وفي إسناده عبد النور بن عبدالله، وهو كذّاب يضع الحديث، وكان غاليا في الرفض .

وينظر في ترجمة عبدالنـور (أبو محمد البصري، المسمعي): التاريـخ الكبير (6/134)، ضعفاء العقيـلي (3/114)، ميزان الاعتدال (4/422) .

(20)   إكمال المعلم (7/52) .

(21)    فتح الباري (11/239) .

(22)    سورة غافر، الآية: 50 .

(23)    سورة المائدة، الآية: 27 .

 



بحث عن بحث