حديث (لَقَدْ سَبَّحْتِ بِهَذِهِ ! أَلاَ أُعَلِّمُكِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَبَّحْتِ بِهِ..)

 

(16) عن كِنَانَةُ مَوْلَى صَفِيَّةَ قَال: سَمِعْتُ صَفِيَّةَ تَقُولُ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ يَدَيَّ أَرْبعَةُ آلَافِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهَا. فَقَالَ: « لَقَدْ سَبَّحْتِ بِهَذِهِ ! أَلاَ أُعَلِّمُكِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَبَّحْتِ بِهِ » فَقُلْتُ: بَلَى عَلِّمْنِي، فَقَالَ: « قُولِي سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ». (1)

السائلة :

هي صَفِيَّة بنتُ حُيَيِّ بن أَخْطَب ، من بني النَّضيْر، من بني إسرائيل من سِبْطِ هاَرونَ بن عِمْران أخ موسى – عليهم السلام -.

كانت زوج سَلاَّم بن مِشْكَم اليهودي، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وهما شاعران، فقتل عنها كنانة يوم خيبر .

وكانت قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع أن قمرًا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها ، فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز، فلطم وجهها وبقي أثرها عليها (2).

ووقعت في السبي يوم خيبر، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واصطفاها، وحجبها وأعتقها وتزوّجها، وقسم لها ولم تبلغ السابعة عشر من عمرها، وكانت عاقلة فاضلة ذات حلم ورأي .

وكان يمتدح نسبها لأن أباها هارون وعمها موسى، عليها السلام.

توفيت في سنة 50 وقيل 52 أو 56هـ في شهر رمضان (3) – رضي الله عنها -

من فوائد الأحاديث :

1/ بيان حال أولئك الصالحات – أمهات المؤمنين - مع الذِّكر، وحبِّهن تلك العبادة، التي غمرتهن أُنسْـًا وسعادة، فعمرن الأوقات، وبذلن الساعات في لذَّة التسبيح والتحميد والمناجاة.

2/ تفضيل قول سبحان اللهِ وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه على مجرد الذكر «بسبحان الله » أضعافًا مضاعفة؛ لأن ما يقوم بقلب الذاكر من معرفة الله تعالى وتنزيهه وتعظيم صفاته وإجلاله أعظم مما يقوم بقلب القائل: « سبحان الله » فقط، وهذا يسمّى الذكر المضاعف وهو أعظم ثناءً من الذكر المفرد وأجمع له .

قال ابن القيّم – رحمه الله - أفضل الذكر وأنفعه ما تواطأ عليه القلب واللسان وشهد الذاكر معانيه ومقاصده (4) .

3/ معنى التسبيح المفُضَلّ: «سبحان الله وبحمده عدد خلقه .. الخ » الإخبارُ باستحقاقِ الله عزَّ وجلَّ التنزيه والثناءَ والحمدَ الممتدّ بهذا العدد العظيم الذي لا يبلغه العادُّون ولا يحصيه المحصون، لكثرته وتجدّده وعدم تناهيه، وليس معناه أن ما أتى به العبد من التسبيح هذا قدره وعدده (5) .

4/ الثواب الجزيل الذي يناله من ذكر الله بتلك الكلمات، لما فيها من صفات الكمال ونعوت الجلال، «فعدد خلقه » شامل لما في السماوات والأرض، والدنيا والآخرة .. والخلق يستلزم العلم والقدرة والإرادة والحياة والحكمة .. وكل ذلك داخل في «رضا نفسه »، ومعناه: عدد من رضي عنهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ورضاه عنهم لا ينقضي ولا ينقطع .

والرضا يستلزم المحبة والإحسان والجود والبرّ والعفو والصفح والمغفرة .

أما «زِنَةُ عَرْشِه » ففيه إثبات للعرش وإضافته إلى الربِّ سبحانه، وأنَّه أثقل المخلوقات على الإطلاق، إذ لو كان شيء أثقل منه لوزن به التسبيح .

فالتضعيف الأول للعدد والكمية، والثاني للصفة والكيفية والثالث للعظم والثقل وختم «بمداد كلماته » وهو يعمُّ الأقسام الثلاثة ويشملها ..

فإن مداد كلماته سبحانه وتعالى لا نهاية لقدره ولا لصفته ولا لعدده .. !!

قال تعالى:(( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (6) .

وقال تعالى ((قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً))  (7).

فلو أن الأشجار استحالت أقلامـًا والبحار ومن بعدها سبعة أمثالها تمدها بمدادها لفنيت تلك الأقلام وجفَّت تلك البحار وكلمات الربِّ سبحانه وصفاته لا تفنى ولا تنفد (8) .

قد بلغت أكمل الوجوه وأعظمها قدرًا وأكثرها عددًا وأجزلها وصفًا .

5/ إثبات «الحمد » لله رب العالمين؛ فإنه المحمود على ما خَلَقَهُ وأمر به ونهى عنه، وهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم، وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وأعدائهم، وهو المحمود على عدله وفضله وإنعامه، فكل ذرَّة من ذرات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبح بحمده السماوات السبع والأرض من فيهنَّ وإن من شيء إلا يسبح بحمده (9) .

6/ قال الشوكاني – رحمه الله - : فيه فائدة جليلة وهي أن الذِّكر يتضاعف ويتعدد بعدد ما أحال الذاكر على عدده وإن لم يتكرر الذّكر في نفسه، فيحصل لمن قال سبحان الله عدد خلقه .. من التسبيح ما لا يحصل لمن كرر التسبيح ليالي وأيامًا بدون ذكر تلك الأوصاف (10) .

7/ قال ابن القيمِّ – رحمه الله - : إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمَّل الله حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمَّه، وفرَّغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته .

وإن أصبح وأمسى والدنيا همَّه حمَّلهُ اللهُ همومَهَا وغمومَهَا وأنكادها ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانَه بذكرهم وجوارحَه بخدمتهم (11)  .


 (1) رواه الترمذي – واللفظ له - (2017  ح 3554) ورواه الحاكم (1/547) بلفظ: «يَا بِنْتَ حُيَيّ مَا هَذَا »؟ الحديث بمثله، وفي آخره: « سُبْحَانَ الله عَددَ ما خَلَقَ مِنْ شيءٍ » الحديث بهذا الإسناد ضعيفٌ، لضعف هاشم بن سعيد الكوفي .

(2) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 307) .

(3) الاستيعاب (4/1871)، أسد الغابة (6/169)، الإصابة (7/738) .

(4) المنار المنيف (ص34)، وينظر: الوابل الصيَّب (ص118)، الفوائد (ص192) .

(5)  ينظر: مجموع الفتاوى (33/12)، المنار المنيف (ص35)، شرح سنن ابن ماجه (ص270)، حاشية السندي (3/78)، عون المعبود (4/ 259) .

(6)  سورة لقمان، الآية: 27 .

(7) سورة الكهف، الآية: 109 .

(8) ينظر: إكمال المعلم (8/220)، المنهاج (17/ 46)، جامـع العلوم والحكم (1/453)، المنـار المنيف (ص36، 37)، الاستقامة (1/213)، حادي الأرواح (ص261)، سبل السلام (4/217)، شرح السيوطي (3/77، 78)، الديباج (6/74)، عون المعبود (4/259) .

(9) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص192) .

 وقال ابن القيم في قصيدته :

والذِّكر أنواع فأعلى نوعــــه                       ذكر الصِّفات لربِّنـــــا المنَّان

وثبوتها أصل لهذا الذكــر والـ                     نَّافي لها داع إلى النسيــــــان

فلذاك كان خليفــــة الشـيطان                    ذا لا مرحبًا بخليفة الشيطـان

والذاكرون على مراتبهم فأعلاهـم                أولوا الإيمـــان والعرفــــان

بصفاته العلياءِ إذ قامـــــوا                           بحمد الله في سرِّ وفي إعــــلان

 شرح قصيدة ابن القيم (2/341) .

(10) نيل الأوطار (2/359) .

(11)   الفوائد (ص84) .

 



بحث عن بحث