شبه المنكرين لحجية السنة، والرد عليهم (17)

 

والرأي الراجح الذي دلت عليه النصوص :

أن النهي كان في بداية الأمر ، ثم وقع الإذن بعده ، إذ حديث أبي شاة المتقدم كان في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان عام الفتح سنة ثمان من الهجرة .

وكذلك إخبار أبي هريرة - وهو متأخر الإسلام فقد أسلم على أرجح الروايات سنة سبع من الهجرة عام خيبر - بأن عبد الله بن عمرو كان يكتب ، وأنه هو لم يكن يكتب : يدل على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة .

وأيضا لو كان النهي متأخرا لعرف ذلك عند الصحابة يقينا ، ولما وقعت الكتابة منهم .

وأخيرا طلب النبي صلى الله عليه وسلم منهم اللوح والقلم - وهو في مرض الموت - ليكتب لهم : إذن صريح وواضح على إباحة الأمر.

بيد أن النهي عن الكتابة كان لسببين :

أحدهما : خوف اختلاط القرآن بالسنن لاسيما وقد كان الاثنان يكتبان في صحيفة واحدة .

آخرهما : خشية اشتغال الناس - عن القرآن - بالسنن ، والقرآن لما يتيسر حفظه بعد لكثير من الصحابة .

فعن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إني مررت بأخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ، قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الله - يعني ابن ثابت - فقلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، قال : فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين))1)

وعن خالد بن عرفطة قال : كنت جالسا عند عمر ، إذ اتى برجل من عبد القيس - مسكنه بالسوس)2)- فقال له عمر : ( أنت فلان بن فلان العبدي ؟) قال : 0 نعم ) قال : ( وأنت النازل بالسوس ؟ ) قال : ( نعم ) فضربه بقناة معه ، فقال الرجل : ( مالي يا أمير المؤمنين ؟ ) فقال له عمر : اجلس ، فجلس فقرأ عليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم . الر . تلك آيات الكتاب المبين . إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . نحن نقص عليك أحسن القصص ... إلى (لمن الغافلين) فقرأها عليه ثلاثا،وضربه ثلاثا،فقال له الرجل:( مالي يا أمير المؤمنين ؟ ) قال : ( أنت الذي نسخت كتاب دانيال ؟ ) قال : ( مرني بأمرك اتبعه ) قال : ( انطلق فامحه بالحميم)3) والصوف الأبيض ، ثم لا تقرأه ، ولا تقرئه أحدا من الناس ، فلئن بلغني عنك : أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس ، لأنهكنك عقوبة ) ثم قال له : ( اجلس ) فجلس بين يديه ، فقال : انطلقت أنا ، فانتسخت كتابا من أهل الكتاب،ثم جئت به في أديم ، فقال لي رسول صلى الله عليه وسلم : ( ما هذا في يدك يا عمر ؟ ) قال : قلت : ( يا رسول الله كتاب انتسخته ، لنزداد به علما إلى علمنا ) ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : ( أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم : السلاح ، السلاح ، فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:( يا أيها الناس إني أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي اختصارا ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية ، فلا تتهوكوا ، ولا يقربكم المتهوكون)4)) قال عمر : فقمت فقلت : ( رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبك رسولا ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) )5)

وعن الزهري ، عن عروة بن الزبير : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن ، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له ، فقال : " إني كنت أردت أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها ، وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا ")6)


)1) - أخرجه الإمام احمد في المسند ( 4 / 265 - 266 رقم 18525 )

)2) - السوس : بضم السين وسكون الواو وسين أخرى بلد قديم بخوزستان فيه قبر دانيال عليه السلام ، والسوس بلد بالمغرب أيضا ، وقيل غير ذلك . انظر : المشترك وضعا والمفترق صقعا لياقوت الحموي ص 259 ، ومراصد الاطلاع لصفي الدين البغدادي 2 / 755 .

)3) - الحميم : هو الماء الحار . انظر : النهاية في غريب الحديث 1 / 262 .

)4) - التهوك كالتهور : هو الوقوع في الأمر بغير روية ، والمتهوك الذي يقع في كل أمر ، وقيل : هو التحير . انظر : النهاية 4 / 258 .

)5)- أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 51 ، 52 بلفظه .

)6) - أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص49- 51 بروايات عديدة بلفظه ومعناه ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم 1 / 77 ، غير أن عروة لم يصح له سماع من عمر بن الخطاب . انظر : التهذيب 7 / 183 - 185 .



بحث عن بحث