استمرار النمو الحقيقي للإيمان

 

 

 

عندما تتمكن اليقظة من القلب ويستمر الإمداد ، ومن ثَمَّ النمو والارتقاء الإيماني ، فإن ذلك من شأنه أن ينعكس على معاملات العبد في شتى المجالات وبخاصة في تعامله مع ربه  ومع الدنيا ، ومع المال ، ومع الناس ، ومع أحداث الحياة ...

هذا النمو من شأنه كذلك أن ينقل القلب من مرحلة إلى مرحلة في رحلة السير إلى الله تعالى حتى يصل إلى أقرب ما يُمكن أن يصل إليه عبد في هذه الرحلة - بعد الأنبياء - حيث الحضور القلبي الدائم مع الله ، أو بمعنى آخر : القلب السليم الأبيض الذي لا تضُرُّه فتنة ما دامت السماوات والأرض كما جاء في الحديث : ( تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا ، فأي قلب أُشربها نُكِتت فيه نكتة سوداء ، وأيُ قلب أنكرها نُكِتت فيه نُكته بيضاء .. حتى تصير القلوب على قلبين : قلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، ويصير الآخر مربادًا  كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه ) (1) .

وفي أثناء رحلة القلب إلى الله يحدث له حدث هام وفارق ومحوريّ ألا وهو « الولادة الثانية » .

وإليك - أخي القارئ – بعضًا من التفصيل حول هذه النقاط التي تتناول انعكاسات النمو الإيماني على الكثير من العلائق والمعاملات .

التعامل مع الدنيا مقياس النمو الحقيقي للإيمان :

عندما يكون الإيمان مخدرًا نائمًا منزويًا في القلب تجد صاحبه غافلًا ، لا يستطيع أن يرى الدنيا على حقيقتها ، بل يراها جميلة مبهرة تذهب بالأبصار ، فيشتد حرصه عليها ، ويزداد فكره فيها وفي كيفية تحصيلها ..

فإن كان هذا الشخص طالبًا في المدرسة أو الجامعة تجده كثير الفكر في مستقبله ، وكيف سيُدبِّر أمر زواجه ، وعمله ، إلخ .

وإن كان فقيرًا تجده يحلم بالغنى ، وينظر نظرة الطامع إلى دنيا غيره .. يمُد عينيه إليها ويتمنَّاها لنفسه ...

وإن كان ثريًّا تجده دائم الفكر في كيفية إنماء أمواله ، ومسابقة أقرانه ، واغتنام كل فرصة تلوح أمامه من شأنها أن تُزيده ثراء .

حالهم جميعًا كحال الأطفال وهم يلهون بالدُمى .. يفرحون إذا ما حصلوا على دُمية جديدة ، ويقضون معها الساعات الطوال ، ويحزنون عليها إذا ما انكسرت وتعطلت ، ويحلمون بشراء المزيد والمزيد منها . فإذا جلس إليهم من يكبُرُهم قليلًا في العمر وتجاوز مرحلة الطفولة ، تجده غير مبال بهم وبألعابهم واهتماماتهم .

كذلك حال الناس مع الدنيا ، فهم يلهون بطينها ويتنافسون عليها ، ويفرحون بتحصيل أي شيء منها ، ويظنُّون أن هذا هو غاية السعادة ، فإذا ما استيقظ الإيمان في قلوب بعضهم ، واستحكمت اليقظة منها ، فإنهم – وبصورة تلقائية – لا يجدون في أنفسهم رغبة في مشاركة من حولهم اللهو بهذا الطين ، وتنصرف رغبتهم - شيئًا فشيئًا – عنها .. هذا التحول ليس بأيديهم ، بل هو انعكاس لطبيعة مرحلة « النمو الإيماني » الذي ارتقوا إليه ، كحال من انتقل إلى مرحلة البلوغ من الأطفال عندما يأتيه أبوه بالدُمية التي طالما تاقت نفسه إليها في الصِغَر ، فإذا به يتعامل معها بدون لهفة ولا شغف ، وسُرعان ما يتركها ولا يُبالي بها .

وليس معنى انصراف الرغبة عن الدنيا هو هجرها وتركها وعدم التعامل مع مفرداتها ، بل إن الفرد في هذه المرحلة يتعامل معها على أنها مزرعة للآخرة ، وأنها مُسخَّرة له لتساعده في إنجاح مهمة وجوده عليها ، ولا بأس من التمتع بها بالقدر الذي لا يُنسيه تلك المهمة .

أو بمعنى آخر : تخرج الرغبة في الدنيا ، والشغف بها ، والحرص واللهفة عليها من قلبه ، فيتعامل معها بعقله قبل مشاعره ، وبما يُحقق له مصلحته الحقيقية في الدارين ، ويمكِّنه من نفع نفسه وأمته فيكون ممن يترك فيها أثرًا صالحًا ، وبذلك تُصبح الدنيا في يده ، يتحكم فيها ولا تتحكم فيه .


(1) أخرجه مسلم ( 1/89) رقم ( 386) ، والأسود المُرباد : شدة البياض في سواد ، ومُجخيًا : أي منكوسًا .

 

 

 



بحث عن بحث