التربية الإيمانية(12)

 

 

الثمرة الخامسة : إيقاظ القوى الخفية .

عندما يتمكن الإيمان من قلب الممن فإنه يوقظ القوى الخفية في داخله، ومن هنا تزداد رغبة العبد في القيام بكل ما يحبه ربه ويرضاه ، فتجده يتحمل الشدائد والصعاب،ويتحدى أوضاعًا أقوى منه ، ويجتاز مصاعب أعظم بكثير من حدود إمكاناته ..

ها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا يوما في مكة ، وكانوا قلة مستضعفين فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط ، فمن رجل يُسمعهم إياه ؟ فقال عبد الله بن مسعود : أنا أُسمعهم إياه . فقالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه بِشَر . فقال : دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني .

ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى ، وقريش جلوس حول الكعبة ، فوقف عند المقام وقرأ  : بسم الله الرحمن الرحيم – رافعًا بها صوته -  ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[الرحمن/1-4] .

ومضى يقرؤها ، فتأملته قريش وقالت : ماذا قال ابن أم عبد ؟! تبًّا له ، إنه يتلو بعض ما جاء به محمد ، وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن ، وإن شئتم لأُغَادينَّهم بمثلها غدًا ، قالوا :لا،حسبك ، لقد أسمعتهم ما يكرهون (1) .

وهذا عمرو بن الجموح يرى أبناءه الثلاثة يتجهزون للقاء أعداء الله في أُحد ، فعزم على أن يغدو معهم إلى الجهاد ، لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه ، فهو شيخ كبير طاعن في السن ، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج ، وقد عذره الله فيمن عذرهم ، فقالوا له : يا أبانا ، إن الله عذرك ، فعلام تُكلف نفسك ما أعفاك الله منه ؟!

فغضب الشيخ من قولهم ، وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوهم ، فقال : يا نبي الله ، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج ، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبنائه : «  دعوه ؛ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة » . فخلوا عنه إذعانًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وما إن أزِف وقت الخروج ، حتى ودع عمرو بن الجموح زوجته ، ثم اتجه إلى القبلة ورفع كفيه إلى السماء وقال : « اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائبًا » . ثم انطلق يُحيط به أبناءه الثلاثة .. ولما حمي وطيس المعركة ، وتفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شوهد عمرو بن الجموح  يمضي في الرعيل الأول ويثب على رجله الصحيحة وثبًا وهو يقول : إني لمَشتاق إلى الجنة ، إني لمَشتاق إلى الجنة ، وكان وراءه ابنه « خلَّاد »  ومازال الشيخ وفتاه يجاهدان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرَّا صريعين شهيدين على أرض المعركة ، ليس بين الابن وأبيه إلا لحظات (2) .

وإن تعجب من أثر الإيمان فعَجَبٌ إصرار عبد الله بن أم مكتوم على الجهاد  وهو أعمى ، وسفره مع جيش سعد بن أبي وقاص إلى القادسية لملاقاة الفرس ، وهو لابس درعه ، مستكمل عدته ، فيتقدم ليحمل راية المسلمين ... وهو أعمى !! ويحافظ عليها إلى أن قُتل شهيدًا ، وهو يحتضن الراية !! (3) .

 


(1) صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين 1/314 ، نقلًا عن سير أعلام النبلاء للذهبي ، وصفة الصفوة لابن الجوزي .

(2) سير أعلام النبلاء ( 1/54) ، وتاريخ الإسلام للذهبي ( 2/216 ) ، والبداية والنهاية لابن كثير ( 4/42 ) .

(3) صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين 1/131 ، 132، نقلًا عن الإصابة لابن حجر ، والطبقات لابن سعد ، وصفة الصفوة لابن الجوزي ، والاستيعاب لابن عبد البر .

 

 



بحث عن بحث