التربية الإيمانية(4)

 

التنافس في الخير :

صاحب الإيمان الحي لا يريد أن يسبقه أحد إلى الوصول للراية العُظمى .. راية رضا الله والتعرض لرحمته ومغفرته ودخول جنته ، لذلك تراه حزينًا حين تتحين أمامه فرصة للاقتراب من تلك الراية ولا يستطيع اغتنامها لأسباب خارجة عن إرادته كالمرض أو الفقر ، ولنا في قصة البَكَّائين خير مثال على ذلك :

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين (غزوة تبوك) ، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن معقل المزني ، فقالوا : يا رسول الله احملنا . فقال : (والله ما أجد ما أحملكم عليه ) ، فتولوا ولهم بكاء ، وعَزَّ عليهم أن يُحبَسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملًا . فأنزل الله عذرهم : ( وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ  ) [التوبة/92] (1) .

- وفي الصحيحين أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ذهب أهل الدثور  (الأموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم ، فقال صلى الله عليه وسلم : « وما ذاك ؟ » ، فقالوا : يُصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أفلا أُعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم  ، وتسبقون به من بعدكم  ، ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ » ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( تسبحون ، وتحمدون ، وتكبرون ، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة )  ، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ، ففعلوا مثله .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) (2).

 

شدة الحرص على دعوة الخلق إلى الله :

كلما ازداد الإيمان وشعر المرء بحلاوته كلما ازدادت رغبته في دعوة الناس جميعًا إلى الله ، وإلى التحرر من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، وكيف لا وهو يرى غيره من الضالين في سجن كان هو فيه وحرَّره الله منه ، لذلك فهو لا يهدأ ولا يقر حتى يُبلِّغ الدعوة إليهم ما وسعه الجهد والوقت والمال .

ويدفعه لأداء هذا الواجب كذلك علمه بأن الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إليه سبحانه ..

 من هنا نُدرك كيف اشتد حرص الصحابة على دعوة الخلق إلى الله .

فهذا أبو بكر الصديق بعد إسلامه يُسارع بالدعوة إلى الله من وَثق به من قومه فأسلم على يديه : الزبير بن العوام ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف (3) .

وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف عن ثقيف اتَّبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة ، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنهم قاتلوك » ، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم ، فقال عروة : يا رسول الله ، أنا أَحَب إليهم من أبكارهم ، وكان فيهم كذلك محببًا مطاعًا .

فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه بمنزلته فيهم ، فلما أشرف على عُلَّية ( مكان مرتفع ) – وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه – رموه بالنبل من كل وجه ، فأصابه سهم فقتله ، فقيل لعروة : ما ترى في دمك ؟ قال : كرامة أكرمني الله بها ، وشهادة ساقها الله إليّ (4)  ..   


(1) الدر المنثور للسيوطي 3/479.

(2) متفق عليه : وهذا لفظ مسلم ، وأخرجه البخاري ( 1/289 برقم 807) ، ومسلم ( 2/97 ، برقم 1375 ) .

(3) السيرة لابن كثير ( 1/437) ، وذكره الحلبي في السيرة الحلبية (  1/449) .

(4) السيرة النبوية لابن هشام ( 2/538 ) ، وأُسد الغابة ( 1/768) ، والاستيعاب لابن عبد البر ( 1/328) ، والإصابة لابن حجر ( 4/493) .

 



بحث عن بحث