الحلقة (55): جوانب التربية الإسلامية(3)

 

ثاني هذه الضوابط:

ثانيًا :  أن تستمر التربية ولا تنقطع أو تتوقف عند فترة معينة ، لأن الأمر الذي استوجبها دائم لا ينقطع ولا يتوقف حتى الموت : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) [الحجر/99] .

تأمل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ...)  [النساء/136] .

يقول محمد قطب معلقًا على هذه الآية :" أي حافظوا على إيمانكم ، استمروا فيه ، لا تغفلوا عن المحافظة عليه .. لا تفتروا عن معاهدته ورعايته وتغذيته وتقويته والحرص عليه" (1) .

ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الإيمان يخلق في القلوب كما يخلق الثوب ، فجددوا إيمانكم )(2) .

فمهما تقدم عمر المرء ، ومهما ارتقى في سلم المسئولية ، فلابد له من الاستمرار في التربية حتى يستمر قيامه بحقوق العبودية لله عز وجل .

( إن القلب البشري سريع التقلب ، سريع النسيان ، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور .. فإذا طال عليه الأمل بلا تذكير ولا تذكُّر ، تبلد وقسا ، وانطمست إشراقته ، وأظلم وأعتم ، فلا بد من تذكير هذا القلب .. ولابد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة )(3) 

وأما النفس فهي كالأسير الذي يحاول مقاومة الأسر ، فإن أسَرْتَه فلابد من اليقظة الدائمة معه حتى لا يفلت منك ويأسرك ويجعلك طوع أمره .

والعقل أيضًا يحتاج باستمرار إلى تزويده بالعلم النافع حتى تتسع مداركه ، وتُفتح نوافذه ، فتزداد معرفته بربه ، وما يُقربه إليه ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) [طه : 114] .

ثالثا : ومن الضوابط الحاكمة للعملية التربوية كذلك ضرورة أن تشمل التربية الجوانب الأربعة للشخصية ، فأي إهمال لجانب منها يؤدي إلى عدم ظهور ثمرة التربية الصحيحة  ( فعندما يحصل اهتمام بتحصيل العلم ، دون الاهتمام بزيادة الإيمان ، فستكون النتيجة المتوقعة : شخص كثير التنظير ، حافظا للنصوص، كثير الحديث عن القيم والمبادئ ، والمعاني العظيمة ، لكنك قد تجد في المقابل واقعًا يختلف عن الأقوال،فهو يتحدث عن العدل والمساواة ، بينما لا يتعامل مع الآخرين بهذه القيم ، وبخاصة مع من يرأسهم .. يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية العمل للآخرة ، في حين تجده يحرص على جمع المال ، وينفق منه بحساب شديد ، ويدقق في كل شيء مهما كان صغيرًا .

كل هذا وغيره بسبب عدم الاهتمام بالإيمان بنفس درجة الاهتمام بالعلم ، فالذي يُقرب المسافة بين القول والفعل ، ويُترجم العلم إلى سلوك هو :  "الطاقة والقوة الروحية المتولدة من الإيمان"  .

أما عندما يتم الاهتمام بالإيمان دون العلم فستجد أمامك شخصًا جاهلًا ، يتشدد فيما لا ينبغي التشدد فيه ، ويترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه .. ستجد شخصًا ضيق الأُفق لا يستطيع أن يتعامل مع فقه الواقع ومستجدات العصر .

وفي حالة الاهتمام بالعلم والإيمان مع عدم الانتباه للنفس ، وإهمال تزكيتها ، فسيكون النتاج : شخصًا كثير العبادة ، كثير المعلومات ، سبَّاق لفعل الخير وبذل الجهد ، لكنه متورم الذات ، يرى نفسه بعدسة مكبِّرة ، ويرى غيره بعكس ذلك ، لأن عبادته وأوراده وبذله – في الغالب – ستغذي إيمانه بنفسه وبقدراته ، وأنه أفضل من غيره ، فيتمكن منه – بمرور الأيام واستمرار الإنجازات و النجاحات – داء العُجْب ، ومن وراءه الغرور والكبر والعياذ بالله ، فيُعرِّض نفسه لمقت ربه وحبوط عمله .

ومع ضرورة الاهتمام بالتربية المعرفية والإيمانية والنفسية تأتي كذلك أهمية التعود على بذل الجهد في سبيل الله ، وفي دعوة الناس إليه ، فلو لم يتحرك المسلم ، ويُعلّم الناس ما تعَلّمه ، ويأخذ بأيديهم لتغيير ما بأنفسهم – بإذن الله – فإنه سيصاب بالفتور والخمول والكسل ، ولن يدرك أسرار الكثير من المعاني التي يتعلمها ، وقبل ذلك فإن الواجب الشرعي والواقع الأليم الذي تحياه أمتنا يُحتِّمان عليه فعل ذلك .

وفي المقابل ، فإن الحركة وبذل الجهد في سبيل الله إن لم يكن وراءها زاد متجدد ، فإن عواقب وخيمة ستلحق بصاحبها ، ويكفيك في بيان هذه الخطورة قوله صلى الله عليه وسلم ( مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه ، مثل الفتيلة ، تُضيء للناس وتحرق نفسها )(4) .

فلابد من الأمرين معًا : لابد من الزاد ، ولابد من التحرك بهذا الزاد(5) .


(1) مكانة التربية في العمل الإسلامي لمحمد قطب ، ص 26 – دار الشروق .

(2) حديث حسن : أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (1/52) وقال الهيثمي : إسناده حسن . والحاكم  (1/45 ، رقم 5) وقال : رواته مصريون ثقات . وقال المناوي (2/324) : قال العراقي في أماليه : حديث حسن ، وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة ، رقم 1585.

(3) في ظلال القرآن لسيد قطب 6/3489 .

(4)  حديث صحيح : أخرجه الطبراني ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5837 .

(5) التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم،  من ص 78 – 81 ، باختصار .

 



بحث عن بحث