الخصيصة الخامسة : تربية واقعية  (2-4)

 

ثانيا/ واقعية النظرة إلى المكلف:

ينظر المنهج الإسلامي إلى المكلف نظرة واقعية لا إفراط فيها ولا تفريط ، فلا غلو في شخصه ولو كان نبيا مرسلا ، ولا تحقير لدوره الذي ناطه الله به ، ومهمته التي أمره الله بأدائها .

وتتمثل واقعية النظرة إلى المكلف من عدة جوانب :

الجانب الأول: مراعاة الطبيعة البشرية ، فالإنسان مخلوق من مادة طينية ومن نفخة ربانية قال تعالى : (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )(1).

ولذلك فقد راعى المنهج الإسلامي الجمع بين المادية والروحية وتعامل مع الإنسان كما هو : لحما ودما ، وفكرا وشعورا ، وانفعالا ونزوعا ، وروحا وتحليقا  حتي يتوافق ذلك مع طبيعة الإنسان  

عن أنس ، قال : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا إذا كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم رأينا من أنفسنا ما نحب، فإذا رجعنا إلى أهالينا فخالطناهم، أنكرنا أنفسنا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لو تدومون على ما تكونون عندي في الحال،لصافحتكم الملائكة حتى تظلكم بأجنحتها  ولكن ساعة وساعة )(2).

وهذا حنظلة صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي أنه يكون مع أسرته وأهله في حال تغاير الحال التي يكون عليها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، من حيث الصفاء والشفافية والشعور بخشية الله تعالى ومراقبته . فرأى هذا لونا من النفاق ، وخرج يعدو في الطريق وهو يقول عن نفسه : نافق حنظلة ، حتى انتهى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وشرح له ما يحس به من تباين حاله عنده عن حاله في البيت ، فأجابه الرسول بقوله ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْكم لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )(3).

وعلى هذه الحياة الواقعية المتوازنة يربي الإسلام المسلم ، فلا يدعه بغرق في اللهو إلى رأسه ، فلا يبقى له شيء لربه ، كما لا يدعه يغلو في التعبد فلا يبقى له شيء لقلبه .

الجانب الثاني: مراعاة الفروق النوعية بين المكلفين ، فهناك الذكر والأنثى :( وليس الذكر كالأنثى )(4)، ولذلك جاءت تكليفات الإسلام لكل نوع بما يتلائم مع تركيبه العضوي والنفسي ، وبما يتماشى مع وظيفته التي جعلها الله تعالى له، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ قَالَ ( عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ )(5).

وعن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله: تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت:"ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيبٌ مما اكتَسَبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن"، ونزلت:( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ) [سورة الأحزاب: 35](6).

وحول واقعية المنهج الإسلامي في النظرة إلى المكلف والتعامل معه يقول الأستاذ سيد قطب : " إن الإنسان في التصور الإسلامي هو هذا الإنسان الذي نعهده ، هذا الإنسان بقوته وضعفه ، بنوازعه وأشواقه ، بلحمه ودمه وأعصابه ، بجسمه وعقله وروحه ، إنه ليس الإنسان الذي يصوره الخيال الجامح ، إنه الإنسان الذي خلقه الله ليستخلفه في هذه الأرض.

إنه الإنسان الواقعي .. ومن ثم فإن المنهج الذي يرسمه له الإسلام منهج واقعي كذلك،تنطبق حدوده على حدود طاقات الإنسان وتكوينه.

والمنهج الإسلامي للحياة ـ على كل رفعته ونظافته ومثاليته ـ هو في الوقت ذاته منهج لهذا الإنسان ـ في حدود طاقته الواقعية ـ ونظام لحياة هذا الكائن البشري الذي يعيش على هذه الأرض يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، ويتزوج ويتناسل،ويحب ويكره ، ويرجو ويخاف ، ويزاول كل خصائص الإنسان الواقعي كما خلقه الله.

والمنهج الإسلامي يأخذ في اعتباره فطرة هذا الإنسان،وطاقاته واستعداداته وفضائله ورذائله ، وقوته وضعفه ، فلا يسوء ظنه بهذا الكائن ولا يحتقر دوره في الأرض ، ولا يهدر قيمته ، كما أنه لا يرفع هذا الإنسان إلى مقام الألوهية ، ولا يخلع عليه شيئا من خصائصها .

كذلك لا يتصوره ملكا نورانيا شفافا لا يتلبس بمقتضيات التكوين المادي ، ومن ثم لا يستقذر دوافع فطرته ومقتضيات هذا التكوين الفطري .

ومع اعتبار المنهج الإسلامي لإنسانية الإنسان من جميع الوجوه فهو وحده الذي يملك أن يصل به إلى أرفع مستوى ، وأكمل وضع يبلغ إليه الإنسان في أي زمان وفي أي مكان"(7).


 


(1) سورة ص / 71 ، 72 .

(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه ( الإحسان ـ باب ما جاء في الطاعات 2 / 179 رقم 345 ) .

(3) أخرجه مسلم ، كتاب الذكر ، باب فضل دوام الذكر والفكر ( 4937 ) .

(4) آل عمران / 36 .

(5) أخرجه ابن ماجه ( 2892 ) وابن خزيمة ( 4 / 359 ) وأحمد ( 24158 ) والدارقطني ( 2748 ) .

(6) أخرجه ابن جرير ( 8 / 261 رقم 9237 ).

(7) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته ص 176 ، 177 .



بحث عن بحث