الخصيصة الخامسة/ تربية واقعية

 

من خصائص التربية في السنة النبوية أنها تربية واقعية ، بمعنى أنها قابلة للتحقق في أرض الواقع ، فالتربية النبوية ليست نظرية عقلية منشؤها خيال جامح ، ولكنها منهج وثيق الصلة بالواقع البشري ، كما أنها ليست قوالب نظرية سرعان ما تتحطم على أرض الواقع ، وليست مثلا وجدانيا تدركه الأشواق ، وتقصر دونه الأعمال ، بل هي منهج ينزل إلى أرض الواقع ويعالج هذا الواقع ، انطلاقا من طبيعته وظروفه ومعطياته .

وقد جاء المنهج الإسلامي التربوي واقعيا في كل شيء ، في أحكامه وتكاليفه ، وفي نظرته إلى المكلف ، وفي نظرته إلى الحياة والتعامل معها ، وفي حلوله الإصلاحية .

فلو أخذنا مثلا :

أولا / واقعية العبادة:

فإننا نجد الإسلام قد جاء واقعيا في شعائره التعبدية من نواح عدة :

1ـ كونها في دائرة الوسع والطاقة . فجميع الشعائر التعبدية التي فرضها الله على عباده ممكنة غير مستحيلة،لا تضيق على الناس،ولا ترهقهم من أمرهم عسرا . قال تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )(1) وقال سبحانه وتعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج )(2).

وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا ، وقاربوا ، وأبشروا ... )(3).

وأخرج الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ بِبَيْتِ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ، فَقَامَ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ، فَقَالَ:"مَالَكِ يَا كُحَيْلَةُ مُبْتَذِلَةً، أَلَيْسَ عُثْمَانُ شَاهِدًا؟"قَالَتْ: بَلَى وَمَا اضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، وَيَصُومُ الدَّهْرَ فَمَا يُفْطِرُ، فَقَالَ:"مُرِيهِ أَنْ يَأْتِيَنِي"، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَتْ لَهُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ بَلَغَكَ عَنِّي أَمْرٌ، قَالَ:"أَنْتَ الَّذِي تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ لا تَضَعُ جَنْبَكَ عَلَى فِرَاشٍ؟"قَالَ عُثْمَانُ: قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ أَلْتَمِسُ الْخَيْرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لِعَيْنِكَ حَظٌّ، وَلِجَسَدِكَ حَظٌّ، وَلِزَوْجِكَ حَظٌّ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَائْتِ زَوْجَكَ، فَإِنِّي أَنَا أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ، وَآتِي النِّسَاءَ، فَمَنْ أَخَذَ بِسُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ تَرَكَهَا ضَلَّ، فَإِنَّ لِكُلِّ عَمِلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَإِذَا كَانَتِ الْفَتْرَةُ إِلَى الْغَفْلَةِ فَهِي الْهَلَكَةُ، وَإِذَا كَانَتِ الْغَفْلَةُ إِلَى الْفَرِيضَةِ، لا يَضُرُّ صَاحِبَهَا شَيْئًا، فَخُذْ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا تُطِيقُ، وَإِنِّي إِنَّمَا بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَلا تَثْقِلْ عَلَيْكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ )(4).

2 ـ استيعابها لجزء يسير من وقت الإنسان . فشعائر العبادة لا تستغرق جميع أوقات الإنسان ، فتشغله عن تحصيل رزقه والسعي لكسب قوته والضرب في الأرض ، وممارسة جميع ألوان النشاط الإنساني التي هي في نظر الإسلام أيضا عبادة .

3 ـ مراعاتها للظروف الخاصة والأحوال الطارئة . وذلك كالمرض والشيخوخة والسفر والإكراه وغير ذلك . وقد جاءت رخص الإسلام الشرعية في هذه الأحوال بردا وسلاما ، ترفع عن الناس الإصر والحرج ، وتشعرهم بواسع رحمة الله ، ويسر هذا الدين الحنيف .

4 ـ توافقها مع الفطرة الإنسانية : ( فقد عرف الإسلام طبيعة الملل في الإنسان فنوّع العبادات ولوّنها ، بين عبادات بدنية كالصلاة والصوم ، وأخرى مالية كالزكاة والصدقات ، وثالثة تجمع بينهما كالحج والعمرة ، وجعل بعضها يوميا كالصلاة ، وبعضها سنويا أو موسميا كالصيام والزكاة ، وبعضها مرة في العمر كالحج المفروض ، ثم فتح باب التطوع لمن أراد مزيد القرب من الله )(5) .

 

 


(1) سورة البقرة / 286 .

(2) سورة الحج / 78 .

(3) صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، باب الدين يسر ( 39 ) .

(4) أخرجه الطبراني في الكبير ( 7 / 252 رقم 7803 )

(5) الخصائص العامة للإسلام ص 151 .



بحث عن بحث