الخصيصة الرابعة/ تربية عمدتها التوازن، وقوامها الوسطية (11-11)

 

" فهم وسط في أنبياء الله ، ورسله ، وعباده الصالحين لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )(1)

ولا جفوا عنهم ، كما جفت اليهود ، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس كما قال تعالى : ( إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم )(2).

وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا . قال الله تعالى : ( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون )(3).

بل المؤمنون آمنوا برسل الله ، وعزروهم ، ونصروهم ، ووقروهم ، وأحبوهم ، وأطاعوهم ، ولم يعبدوهم ، ولم يتخذوهم أربابا ، كما قال تعالى : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون . ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )(4).

ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح فلم يقولوا : هو الله ، ولا ابن الله ، ولا ثالث ثلاثة ، كما يقول النصارى ولا كفروا به ، وقالوا على مريم بهتانا عظيما ، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود .

بل قالوا هذا عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، وروح منه .

وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله تعالى ، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ، ويمح ما شاء ويثبت . كما قالته اليهود كم حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها )(5) وبقوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم )(6)

ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله ، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا ، كما يفعله النصارى ، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله )(7).

قال عدي بن حاتم رضي الله عنهم : قلت : يا رسول الله ما عبدوهم ؟ قال : "ما عبدوهم ، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم"(8).

والمؤمنون قالوا : لله الخلق والأمر كما قال الله تعالى ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين )(9) .

فكما لا يخلق غيره ، لا يأمر غيره . وقالوا سمعنا وأطعنا ، فأطاعوا كل ما أمر الله به ، وقالوا إن الله يحكم ما يريد .

وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيما .

وكذلك في صفات الله تعالى ، فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ، فقالوا : هو فقير ونحن أغنياء كما قال الله تعالى ذلك عنهم : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق )(10).

وقالوا يد الله مغلولة ، قال تعالى : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء )(11).

والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به . فقالوا : إنه يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ، ويثيب ويعاقب .

والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ، ليس له سمي ولا ند : ( ولم يكن له كفوا أحد ) ، و ( ليس كمثله شيء ) فإنه رب العالمين وخالق كل شيء ، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه".(12)

 


(1) سورة التوبة / 31 .

(2) سورة آل عمران / 21 .

(3) سورة المائدة / 70 .

(4) سورة آل عمران / 79 ، 80 .

(5) سورة البقرة / 142 .

(6) سورة البقرة / 91 .

(7) سورة التوبة / 31 .

(8) أخرجه الترمذي ، كتاب التفسير ، تفسير سورة التوبة .

(9) سورة الأعراف / 54 .

(10) سورة آل عمران / 181 .

(11) سورة المائدة / 64 .

(12) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 3 / 370 ــ 373 ) .



بحث عن بحث