الخصيصة الرابعة/ تربية عمدتها التوازن، وقوامها الوسطية (10-11)

 

ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه ، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والجد والتشمير في العمل ، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد ، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات . كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات ، فداء هذا من جهله وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله . وهذا حال أكثر أرباب الفقـــــــــر والتصوف السالكين على غير طريق العلم . بل على طريق الذوق والوجد والعادة ، يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه لا يدري من يعبد ولا بماذا يعبده ، فتارة يعبده بذوقه ووجده ، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين أو كشف رأس أو حلق لحية ونحوها ، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين وليس له أصل في الدين ، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنا ما كان ، وهنا طريــــــق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد.

فهؤلاء كلهم عمى عن ربهم وعن شريعته ودينه لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه ولا يقبل من أحد دينا سواه ، كما أنهم ، لا يعرفون صفات ربهم التي تعرف بها إلى عباده على ألسنة رســــــله ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها ، فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له .

ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ورجا له النفوذ وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته ، فإن القواطع كثيرة شأنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد . ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين ، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها ولكن الله يفعل ما يريد .

والوقت كما قيل سيف فإن قطعته وإلا قطعك ، فإذا كان السير ضعيفا والهمة ضعيفة ، والعلم بالطريق ضعيفا ، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة ، فإنه جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء ، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع ، والله ولي التوفيق "(1).

ولذا فإن الله امتدح هذه الطائفة الجامعة بين قوتي الإنسان العلمية والعملية وأخبر سبحانه وتعالى في كتابه أن الذي يفهم الأمثال المضروبة في القرآن هم العالمون العاملون :" فقال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) (2).

فحصر تعقلها في العالــــمين . وهو قصد الشارع من ضرب الأمـثال .   وقال : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى )(3) .

 ثم وصف أهل العلم بقوله : ( الذين يوفون بعهد الله ولا  ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار )(4)وحاصل هذه الأوصاف يرجع إلى أن العلماء هم العاملون .

وقال في أهل الإيمان ـ والإيمان من فوائد العلم ـ ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) (5).

ومن هنا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فقال تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو )(6).فشهادة الله تعالى وفق علمه ظاهرة التوافق ، إذ التخالف محال ، وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة لأنهم محفظون من المعاصي ، وأولوا العلم أيضا كذلك من حيث حفظوا بالعلم(7) .

لقد آتت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام رضوان الله عليهم ثمارها في اعتقادهم وأقوالهم وأفعالهم . وفي من بعدهم ممن سار على نهجهم ، واقتفى أثرهم واستن بسنتهم حتى أصبح التوازن في المعتقدات والأعمال والأقوال صفة بارزة من صفاتهم .

 

 


(1) طريق دار الهجرتين وباب السعادتين ص 184 ، 185 .

(2) سورة العنكبوت : الآية 43 .

(3) سورة الرعد : الآية 19 .

(4) سورة الرعد : الآيات 20 ـ 22 .

(5) سورة الأنفال : الآيات 2 ـ 4 .

(6) سورة آل عمران / 18 .

(7) الموافقات ( 1 / 71،72 ).



بحث عن بحث