الخصيصة الرابعة/ تربية عمدتها التوازن، وقوامها الوسطية (8- 11)

 

وهكذا تعلم الصحابة رضوان الله عليهم من الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر الإمام مسلم في صحيحه من طريق طاوس أنه قال : "أدركتُ ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر " ، وسمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس "(1)(2) .

ومعناه " أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته وإنما جعلهما في الحديث غاية لذلك للإشارة إلى أن أفعالنا وإن كانت معلومة لنا ومرادة منا فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئة الله " (3) .

قال القاري : " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتزام ما يجب على المكلف من امتثال أمر مولاه سبحانه من العبودية عاجلا ، وتفويض الأمر إليه بحكم الربوبية آجلا ، وأعلمهم بأن ههنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر ، باطن وهو حكم الربوبية ، وظاهر وهو سمة العبودية فأمر بكليهما ليتعلق الخوف بالباطن المغيب ، والرجاء بالظاهر البادي ليستكمل المكلف بذلك صفات المؤمنين ونعوت الإيقان ، ومراتب الإحسان ، يعني عليكم بالتزام ما أمرتم  ، واجتناب ما نهيتم من التكاليف الشرعية بمقتضى العبودية ، وإياكم والتصرف في الأمور الربوبية " (4).

فأوضح صلى الله عليه وسلم لأصحابه الطريق المستقيم ، وحدد لهم معالمه، فطريق المكلف أن ينهض بالتكاليف الواضحة على قدر  استطاعته وأن يجتنب النواهي التي حددها الله ورسوله . قال تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } (5). وقال تعالي : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }(6) . وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه  ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " (7). وأن يشغل المكلف نفسه بمعرفة ما أمر الله به ، وما نهاه عنه وألا يبحث في شيء وراء ذلك من أمر الغيب الذي حجبه الله عن إدراكه، لأن ذلك فوق طاقته ، ولم يكلفه الله سبحانه شيئا فوق طاقته . قال تعالى :  { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (8)، وقال تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا }(9).

 

وقال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28 ) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (10) . وبهذا يتم التوازن في اعتقاد المكلف وشعوره ، كما يتم التوازن في نشاطه وحركته (11) .

 

 


(1) والكسي : بفتح الكاف ضد العجز ومعناه الحذق في الأمور ويتناول أمور الدنيا والآخرة ، انظر : لسان العرب 6 / 200 ، مادة ( كيس ) .

(2) رواه مسلم ، كتاب القدر ، باب كل شيء بقدر 4 / 2045 رقم الحديث 2655 .

(3) فتح الباري 11 / 478 .

(4) لامع الدراري على جامع البخاري 4 / 465 بتصرف يسير .

(5) سورة التغابن : الآية 16 .

(6) سورة الحشر : الآية  7 .

(7) أخرجه الإمام مسلم ، كتاب الحج ، باب فرض الحج مرة في العمر 2 / 975 رقم الحديث 1337 .

(8) سورة البقرة الآية 286 .

(9) سورة الطلاق : الآية 7 .

(10) سورة الأعراف الآيتان 28 / 29 .

(11) انظر خصائص التصور الإسلامي لسيد قطب ص 154 ، دار الشروق ، بيروت .

 



بحث عن بحث