الخصيصة الرابعة/ تربية عمدتها التوازن، وقوامها الوسطية(1-3)

 

لقد تميزت هذه الأمة بأنها أمة وسط ، قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ....) (1)، ومن ثَمَّ فإن منهج هذا الدين يقوم على الوسطية، والاعتدال، والتوازن ، إنه المنهج الذي وازن بين الروح والمادة ، والدنيا والآخرة ، وراعى إمكانات النفوس البشرية، فشرع لها ما يتوافق مع تلك الإمكانات، دون عنت أو مشقة ، ودون تهاون أو تقصير ، قال تعالى : ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ...) (2).

إنه الحث على إيجاد التوازن بين الحياتين، في حياة الإنسان ، وذلك بغية تمكين الإنسان من أن يدرك دوره في هذا الكون، وأن يشيد ويبني ، وأن يقيم حضارة، ويستغل كل ما يستطيع من مصادر البيئة من حوله ، وفي نفس الوقت يرتبط بالله ارتباط ولاء، وطاعة، وانتماء ، وبهذا التوازن تتكامل النفس الإنسانية، وتتقدم الحياة .

لذلك كانت تربية النبي - صلى الله عليه وسلم- لأصحابه مبنية على هذه السمة البارزة الأصيلة ، فكان يربي أصحابه على الاعتدال والتوازن ، وينهاهم عن الإفراط والتفريط .

  فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : (إن لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة ، فإن صاحبها سَدَّدَ وقارب فارجوه ، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه ) (3).

  ففي هذا الحديث يضع النبي - صلى الله عليه وسلم- لأصحابه قاعدة مهمة في التوازن في العمل المجانب لجانبي الإفراط والتفريط ، فقد صور لهم في

هذا الحديث همة المكلف، وحرصه الشديد على الخير أو الشر ، ثم يكون بعد ذلك فتور، وضعف، وسكون ، فإن سلك المكلف صاحب تلك الهمة، والحرص الشديد في عمله ذاك التوسط والسداد، وسلك الطريق المستقيم ، واقتصد في أموره ، وتجنب طرفي إفراط الهمة والحرص ، وتفريط الفتور والوهن ، فقد أفلح ، وعندئذ فارجو له التوفيق والسداد اللذين بهما يتمكن من المداومة علي الوسط ، لأن أحب الأعمال إلى الله أدومها .

  قال الطيبي :" فإن قوله ( إن لكل شيء شرة .... ) معناه : أن لكل شيء من الأعمال الظاهرة، والأخلاق الباطنة طرفين، إفراطا وتفريطا ، فالمحمود هو القصد بينهما ، فإن رأيتم أحدًا يسلك سبيل القصد فارجوه أن يكون من الفائزين، ولا تقطعوا له ، فإن الله هو الذي يتولى السرائر ، وإن رأيتموه يسلك سبيل الإفراط والغلو، حتى يشار إليه بالأصابع، فلا تثبتوا القول فيه بأنه من الخائبين ، فإن الله هو الذي يطلع على الضمائر (4).

 


(1)     - سورة البقرة / 143.

(2)     – سورة القصص /77.

(3)     – أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب منه حديث " إن لكل شئ شرة "( 2453 ) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

(4)     – شرح الطيبي على مشكاة المصابيح ( 10 /10 ).

 

 

 

 



بحث عن بحث