تابع للخصيصة الثانية : تربية إنسانية .

أولا : مبدأ الإخاء الإنساني :

 مبدأ الإخاء البشري العام مبدأ قرره الإسلام بناء علي أن البشر جميعا أبناء رجل واحد وامرأة واحدة ، ضمتهم هذه البنوة الواحدة المشتركة ، والرحم الواصلة ، ولهذا قال تعالى في أول سورة النساء : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ، إن الله كان عليكم رقيبا )(1).

وما أحق كلمة ( الأرحام ) المذكورة في هذه الآية أن تفسر بحيث تشمل بعمومها الرحم الإنسانية العامة ، لتتسق مع بداية الخطاب بــ : ( يا أيها الناس ) ومع ذكر النفس الواحدة التي خلق الله منها جميع الناس رجالا ونساء ، وهي نفس آدم عليه السلام وعطفها على لفظ الجلالة ( الله ) في هذا المقام يدل على أن لهذه الأرحام شأنا أي شان .وقد كان رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ يقرر هذا الإخاء ويؤكده كل يوم أبلغ تأكيد وأوثقه .

فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن زيد بن أرقم رضي الله عنه : أن رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ كان يقول دبر كل صلاة :

(اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه ، أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك ) .

( اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه ، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك ) .

( اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه ، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ) (2).

بهذا الدعاء كان يناجي رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ربه بعد كل صلاة ، وأنه ليدلنا أوضح دلالة على قيمة الإخاء البشرى في رسالة الإسلام :

1ـ فهو ــ أولا ــ يعلن الأخوة بين عباد الله كلهم لا بين العرب وحدهم ولا بين المسلمين وحدهم ، مشيرا إلى الجامع المشترك بينهم ، الموحد بين أجناسهم وألوانهم وطبقاتهم وهو العبودية لله تعالى .

2ـ وهو ــ صلى الله عليه وسلم ــ يقرر ذلك في صيغة دعاء يناجي به ربه ويشهد بنفسه أمامه سبحانه على حقية هذا المبدأ وصدقه ، أي إن تقرير هذا المبدأ ليس مجرد كلام للاستهلاك المحلي أو للتضليل العالمي ،وإنما هو حقيقة دينية لا ريب فيها  .

3ـ أنه قرن هذا المبدأ بالمبدأين الأساسيين في عقيدة الإسلام واللذين لا يدخل أحد هذا الدين إلا إذا آمن وشهد بهما ، وهما : توحيد الله تعالى ورسالة عبده محمد ، وهذا الاقتران دليل على أهمية هذا المبدأ ( الإخاء ) لدى رسول الإسلام .

كما أن لهذا الاقتران دلاله أخرى في تأكيد مبدأ الإخاء، فإن توحيد الله تعالي معناه إسقاطه كافة المتألهين في الأرض ، المتعالين علي غيرهم من عباد الله ، وهذا أول ما يعمق أساس الأخوة بين الخلق ، كما أن الشهادة بأن محمدا عبد الله ورسوله ــ ليس إلها ، ولا نصف إله ، ولا ثلث إله ، ولا ابن إله ، ولا من سلالة الآلهة ــ يؤكد مضمون الأخوة العامة ويثبتها .

4ــ ثم هو لا يكتفي بإعلانه مرة في العمر أو مرة كل عام ، أو حتي كل شهر أو كل أسبوع ، بل يدل هذا الحديث أنه كان يكرر ذلك في كل يوم ، وعقب كل صلاة ، أي خمس مرات في اليوم والليلة ، وهذا دليل علي مزيد العناية والاهتمام .

5ــ أنه جعل ذلك من الأذكار والأدعية التي يتعبد بها ، ويتقرب إلي الله بتكرارها ، وربطه بالصلاة وختامها ، وهذا يضفي عليه قدسية ومنزلة في قلوب المؤمنين لا تعدلها منزلة مبدأ يقرر بعيدا عن الله وهداه .

ويزداد هذا الإخاء توثقا وتأكدا إذا إضيف إليه عنصر الإيمان ، فتجتمع الأخوة الإيمانية إلى الأخوة الإنسانية ، وتزيدها قوة علي قوة ، وإذا كان باب الإيمان مفتوحا لكل الناس يلا قيد ولا شرط ولا تحفظ علي جنس أو لون أو إقليم أو طبقة ، فإن الإخاء الديني المتفرع عن الإيمان والعقيدة المشتركة لا يضعف الإخاء العام ، بل يشد عضده ويقويه ، ويجعل له في واقع الناس كتلة حية ملموسة تؤمن به وتطبقه ، وتدعو إليه ، وتدافع عنه ، فلا تنافي إذن بين الإخاء البشري العام وبين الإخاء الديني الذي نلمسه في مثل قوله تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة )(3)، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه )(4)، ولقد طبق الإسلام هذا الإخاء الرفيع ، وأقام علي أساسه مجتمعا ربانيا إنسانيا فريدا شعاره : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )(5)، وجد هذا المجتمع في المدينة بعد الهجرة، في ظل العقيدة، فانطفأت نار العداوة بين الأوس والخزرج ، وذابت الحواجز بين القحطانيين والعدنانيين من العرب ، كما رأينا ذلك في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، وانحلت العقد بين العربي والعجمي ، وامحت الفوارق بين الأغنياء والفقراء وبين المتحضرين والبداة ، وأصبح مسجد الرسول يضم في رحابه الفيحاء ، الحبشي كبلال ، والفارسي كسلمان ، والرومي كصهيب ، إلي جوار إخوانهم العرب الأقحاح من الصحابة ، كما يضم أغنياء كابن عوف وابن عفان ، وفقراء كأبي ذر وأبي هريرة . لم ينل من أخوتهم اختلاف الجنس أو اللون أو القبيلة أو الطبقة ، أو أي اعتبار بشري مما يفرق الناس بعضهم من بعض .

  لقد غسل الإسلام الأنفس من أرجاس الجاهلية وطهرها من الغل والحسد والحقد ، ونقاها من الأنانية والشح والبخل ، بل ارتقي ببعض الأنفس إلي درجة الإيثار ، كما رأينا في مثل موقف سعد بن الربيع الأنصاري مع أخيه عبد الرحمن بن عوف المهاجري ، فقد عرض عليه شطر ماله ليتملكه ، كما عرض عليه إحدى زوجتيه ليطلقها من أجله فيتزوجها ، وهو طيب النفس قرير العين (6).

 وكان هذا هو الطابع العام لموقف الأنصار من إخوانهم المهاجرين ، برغم ما ينشأ عادة من عقد بين أصحاب البلد والطارئين عليهم ، وبرغم كيد اليهود ، ودسائس المنافقين ، ولا عجب أن سجل الله في كتابه هذا الموقف الخالد لهذه الجماعة المؤمنة بقوله :(والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)(7).

 


(1) -سورة النساء / 1

(2) -أخرجه أحمد ( 4 /369 ) وأبو داود ، كتاب الصلاة ، باب ما يقول الرجل إذا سلم ( 1508 )عن زيد بن أرقم . وفي إسناده داود بن راشد الطفاوي ابو بحر الكرماني ، وهو لين الحديث كما قال الحافظ في التقريب ، وراويه عن زيد بن أرقم وهو أبو مسلم البجلي لم يوثقه غير ابن حبان 

(3) - سورة الحجرات / 10 .

(4) -أخرجه البخاري ، كتاب الإكراه ، باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه ..( 6951 ) ومسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، باب تحريم الظلم ( 6743 )

(5) -أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان ، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( 13 ) ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب الدليل علي أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( 45 ) .

(6) -الخصائص العامة للإسلام ص83 ــ85 .

(7) - سورة الحشر / 9 .

 



بحث عن بحث