الخصيصة الثانية : تربية إنسانية .

 

 التربية النبوية تربية إنسانية تعني بالإنسان وتكريمه وإبراز حقوقه وترسيخ كل المعاني الإنسانية النبيلة، والقيم الإنسانية الفاضلة ونجد ذلك واضحا ثابتا أصيلا في عقيدة الإسلام وتشريعاته ومبادئه وتوجيهاته ، ورسل الله جميعا قبل النبي صلي الله عليه وسلم كان لهم جانب إنساني في دعوتهم لقومهم .

 فهذا هود عليه السلام - كما ينكر على قومه الشرك بالله - ينكر عليهم العبث والانحراف والبطش والجبروت ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين )(1)

 وصالح يحذر قومه من الطغاة المفسدين فيقول ( فاتقوا الله وأطيعون . ولا تطيعوا أمر المسرفين . الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون )(2)

 ولوط يقول لقومه ( أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين )(3) ( أتأتون الذكران من العالمين . وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون )(4)

 وشعيب يقول لقومه ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط . ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ )(5)

 فهنا نجد شعيبا يبدأ قومه بدعوتهم إلى التوحيد الذي هو أساس البناء في الرسالات الإلهية كلها ، ويستغرق هذا منه جملة واحدة ، ثم يسهب ويفيض في دعوتهم إلى العدل في معاملاتهم الاقتصادية والإعراض عما كانوا عليه من التطفيف والبخس والإفساد ، وهنا يردون عليه في جهل ساخر ، أو في سخرية جاهلة ، إذ ( قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد )(6)

 

 وهكذا نجد دعوات الرسل لم تنفصل عن مشكلات البشر ، ولم تغفل أحوال المجتمع الإنساني ، وما تتطلبه من علاج وإصلاح . ولكن ما موقف دعوة الإسلام من الجانب الإنساني ؟

 والجواب أن كل دارس للإسلام في كتابه وسنة نبيه يتبين له بجلاء : أنه وجه عناية بالغة إلى(الجانب الإنساني) وأعطاه مساحة رحبة من رقعة تعاليمه وتوجيهاته وتشريعاته .

 وإذا نظرت في الفقه الإسلامي وجدت ( العبادات ) لا تأخذ إلا نحو الربع أو الثلث من مجموعه ، والباقي يتعلق بأحوال الإنسان من أحوال شخصية ومعاملات وجنايات وعقوبات وغيرها .

 على أنك إذا تأملت العبادات الكبرى نفسها ، وجدت إحداها ( إنسانية ) في جوهرها ، وهي عبادة ( الزكاة ) ، فهي تؤخذ من الإنسان الغني لترد على الإنسان الفقير، هي للأول تزكية وتطهير ، وللثاني إغناء وتحرير .

 والعبادات الأخرى لا تخلو من جانب إنساني تلمحه في ثناياها .

 فالصلاة عون للإنسان في معركة الحياة ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة )(7)

 والصوم تربية لإرادة الإنسان على الصبر في مواجهة المصاعب ، وتربية لمشاعره على الإحساس بآلام غيره ، فيسعي إلى مواساته ، ولهذا سمي النبي صلي الله عليه وسلم شهر رمضان ( شهر الصبر ) و ( شهر المواساة )(8)  

 والحج مؤتمر رباني انساني ، دعا الله فيه عباده المؤمنين ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات )(9) فشهود المنافع هنا يمثل الجانب الإنساني في أهداف الحج .

 وفوق ذلك نجد النبي صلي الله عليه وسلم يرفع إلى درجة العبادة كل عمل يؤديه المسلم ، يترتب عليه نفع مادي لإنسان ، أو سرور نفسي لإنسان .

 ولا يكاد مسلم يجهل الأحاديث النبوية التي تقرر أن : إماطة الأذى عن الطريق صدقة ، وأن أمرك بمعروف صدقة ، ونهيك عن منكر صدقة ، وحملك الرجل الضعيف علي دابته صدقة ، وإصلاحك بين اثنين صدقة ، وتبسمك في وجه أخيك صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة .... الخ ما جاء به الحديث من ألوان البر الإنساني ، والخدمة الاجتماعية .

 بل إن النبي صلي الله عليه وسلم ليرتفع بهذا اللون من البر والخدمة الإنسانية اليومية ، إلى منزلة الواجب الذي يؤاخذ من تركه عمدا وهو قادر عليه .

 روي الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم ، قال:( علي كل مسلم صدقة ) قيل : أرأيت إن لم يجد ؟ قال : ( يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق ) ، قال : قيل : أرأيت إن لم يستطع ؟ قال : ( يعين ذا الحاجة الملهوف ) قال : قيل له : أرأيت إن لم يستطع ؟ قال : ( يأمر بالمعروف أو الخير ) قال : أرأيت إن لم يفعل ؟ قال : ( يمسك عن الشر فإنها صدقة )(10)

 وأكثر من ذلك : أن الرسول صلي الله عليه وسلم يجعل هذه الفريضة الإنسانية الاجتماعية اليومية علي كل سلامي من جسم الإنسان ، أي كل مفصل من مفاصله .

 روي الشيخان عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ) ، قال : ( تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ) قال : ( والكلمة لطيبة صدقة ، وكل خطوة تمشيها إلي الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة )(11)

 بل إننا في بعض الأحيان نجد في الدروس التربوية لرسول الله صلي الله عليه وسلم أنه يعطي قيمة لبعض الأعمال تفوق قيمة الاشتغال بالقربات الدينية ، وذلك ظاهر في الأعمال التي تتسع فيها دائرة النفع للخلق .

 روي أبو داود وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ ) قالوا بلي يا رسول الله ، قال : ( إصلاح ذات البين ، وفساد ذات البين الحالقة )(12) . والحالقة : أي هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما يستأصل الموس الشعر .

 وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ؟ فقال : ( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم ، تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دينا ، أو تطرد عنه جوعا ، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة - شهرا ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتي يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزو الأقدام )(13)

 هذه النزعة الإنسانية الأصيلة في الإسلام هي أساس هام لمبدأين من أهم المبادئ الإنسانية العامة ، هما مبدأ الإخاء ومبدأ المساواة .

 

 


 

(1) - سورة الشعراء / 128 - 130 .

(2) - سورة الشعراء / 150 - 152 .

(3) - سورة الأعراف / 80 .

(4) - سورة الشعراء / 165 ، 166 .

(5) - سورة هود / 84 - 86 .

(6) - سورة هود / 87 .

(7) - سورة البقرة / 153 .

(8) - كما في حديث سلمان عند ابن خزيمة ( 1887 ) وإسناده ضعيف ، وقال ابن خزيمة قبل سياقه : إن صح الخبر .

(9) - سورة الحج / 28 .

(10) - أخرجه البخاري ، كتاب الزكاة ، باب صدقة العيد ( 1445 ) ، كتاب الأدب ، باب كل معروف صدقة ( 6022 ) ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب بيان أن اسم الصدقة يقع علي كل نوع من المعروف ( 2330 ) .

(11) - أخرجه الخاري ، كتاب الصلح ، باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم ( 2707 ) ومسلم ،الكتاب والباب السابقين ( 2332 )

(12) - أخرجه أبو داود ، كتاب الأدب ، باب في إصلاح ذات البين ( 4919 ) والترمذي ، كتاب صفة القيامة ( 2509 ) وقال : هذا حديث صحيح .

(13) - قال المنذري في الترغيب ( 2 / 704 ) رواه الأصبهاني واللفظ له ، ورواه ابن أبي الدنيا عن بعض أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ولم يسمه ، وحسنه الشيخ الألباني في الصحيحة ( 906 ) .



بحث عن بحث