فعقائد الإسلام عقائد ربانية مأخوذة من كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من القرآن الكريم الذي أرسي دعائمها، ووضح معالمها، ومـن صحيح السنة المبينة للقرآن، فهي ليست من وضع أحد من البشر، وليس لأحد منهم أن يغير أو يبدل في عقيدة الإسلام.

       والعبادات الإسلامية - بمعني الشعائر التي يتعبد بها الله تعالي - عبادات ربانية، فالوحي الإلهي هو الذي رسم صورها، وحدد أشكالها، وطرق أدائها، وليس لأحد من الناس مهما علا شأنه أن يبتكر صورا وهيئات من عنده للتقرب إلي الله تعالي، فإن هذا افتئات علي صاحب الحق الأوحد في ذلك، وهو الله تعالي، صاحب الخلق والأمر.

        والتشريعات الإسلامية تشريعات ربانية، أساسها وحي الله وكلماته المعصومة من الخطأ، المنزهة عن الظلم، فالله تعالي هو وحده المشرع، وهو الذي يأمر وينهي ويحلل ويحرم، ويكلف ويلزم بمقتضي ربوبيته وألوهيته وملكه لخلقه جميعا.

         وكذلك الأخلاق والآداب الإسلامية، ربانية خالصة، فإن الذي وضع أصولها، وحدد أساسياتها هو الوحي الإلهي مما جاء في كتاب الله تعالي أو علي لسان النبي صلي الله عليه وسلم

     ولهذا نجد القرآن الكريم يعقب علي كثير من الأحكام والتشريعات بلفت الأنظار إلي ربانية مصدرها لتطمئن الأنفس، وتستريح الضمائر، وتنشرح الصدور للاستجابة والتنفيذ، ولا يتلكأ متلكئ أو يتواني متوان في الطاعة لحكم الله

  من هذه التعقيبات قوله تعالي في ختام آية قسم الصدقات من سورة التوبة: (فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(1)، ونحوها في ختام آية قسمة المواريث الأولي في سورة النساء: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)(2).

 وفي ختام آية المواريث الثانية: (وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)(3).

 وفي آخر آية في سورة النساء وهي متعلقة بالميراث أيضا يختمها بقوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(4).

 وفي سورة الطلاق يعقب الله تعالي علي أحكام الآية الأولي بقوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)(5) وبعد ثلاث آيات يذكر فيها بعض الأحكام ثم يقول: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ)(6).

 وبعد أحكام النساء والمؤمنات المهاجرات في سورة الممتحنة يعقب فيقول: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(7).

 وهذه التعقيبات وأمثالها ترشد وتذكر، وتنبه وتؤكد، علي الأصل الذي تستمد منه هذه التشريعات، فهي ربانية سماوية، تصدر ممن لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، فهو الحكيم فيما خلق وقدر، والحكيم فيما أمر ونهي: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) ولا تجد في شرع الرحمن من تهافت، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين.

 ومن ثم فعلي المؤمن الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلي الله عليه وسلم نبيا ورسولا الرضا بكل تعاليم هذا النظام وأحكامه، وتقبله بقبول حسن، مع انشراح الصدر،طمأنينة القلب، فهذا من موجبات الإيمان بالله ورسوله: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(8).

 ويلزم من هذا الاحترام والتقديس وحسن القبول: المسارعة ألي التنفيذ، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، دون تلكؤ أو تكاسل، أو تحايل علي الهرب من تكاليف النظام والتزاماته، والتقيد بأوامره ونواهيه.

  ونكتفي هنا بضرب مثلين يبينان مواقف المسلمين والمسلمات في العهد النبوي من شرع الله تعالي وأمره ونهيه.

    أولهما: ما وقع من المؤمنين بالمدينة عقب تحريم الخمر.

  لقد كان للعرب ولع بشربها وأقداحها ومجالسها، وقد عرف الله ذلك منهم فأخذهم بسنة التدرج في تحريمها، حتي نزلت الآية الفاصلة تحرمها تحريما باتا، وتعلن أنها (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)(9)، وبهذا حرم النبي صلي الله عليه وسلم شربها وبيعها وإهداءها لغير المسلمين، فما كان من المسلمين حينذاك إلا أن جاءوا بما عندهم من مخزون الخمر وأوعيتها، فأراقوها في طرق المدينة إعلانا عن براءتهم منها.

 ومن عجيب أمر الانقياد لشرع الله أن فريقا منهم حين بلغته هذه الآية كان منهم من في يده الكأس: قد شرب بعضها وبقي بعضها في يده فرمي بها من فيه، وقال إجابة لقول الله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)(10)، قد انتهينا يا رب!(11)

 ولو وازنا هذا النصر المبين في محاربة الخمر والقضاء عليها في البيئة الإسلامية، بالإخفاق الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة الأمريكية حين أرادت يوما أن تحارب الخمر بالقوانين والأساطيل - لعرفنا أن البشر لا يصلحهم إلا تشريع السماء: الذي يعتمد علي الضمير والإيمان قبل الاعتماد علي القوة والسلطان.

   وثانيهما: موقف النساء المسلمات الأول مما حرم الله عليهن من تبرج الجاهلية، وما أوجب عليهن من الاحتشام والتستر، فقد كانت المرأة في الجاهلية تمر كاشفة صدرها، لا يواريه شئ، وكثيرا ما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقراط آذانها فحرم الله علي المؤمنات تبرج الجاهلية الأولي، وأمرهن أن يتميزن عن نساء الجاهلية، ويخالفن شعارهن ويلزمن الستر والأدب في هيئاتهن وأحوالهن، بأن يضربن بخمرهن علي جيوبهن، أي يشددن أغطية رؤوسهن بحيث تغطي فتحة الثوب من الصدر، فتواري النحر والعنق والأذن وهنا تروي لنا السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كيف استقبل نساء المهاجرين والأنصار في المجتمع الإسلامي الأول، هذا التشريع الإلهي الذي يتعلق بتغيير شئ هام في حياة النساء، وهو الهيئة والزينة والثياب.

 قالت عائشة: (يرحم الله نساء المهاجرين الأول.... لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)(12) شققن مروطهن - أكسية من صوف أو خذ - فاختمرن بها)(13).

 وجلس إليها بعض النساء يوما،  فذكرن نساء قريش وفضلهن، فقالت: ( إن لنساء قريش لفضلا، وإني والله ما رأيت من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله فيها، ويتلو الرجل علي امرأته وابنته وأخته وعلي كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلي مرطها المرحل - المزخرف الذي فيه تصاوير -  فاعتجرت به - شدته علي رأسها - تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتاب، فأصبحن وراء رسول الله صلي الله عليه وسلم معتجرات كأن علي رؤوسهن الغربان)(14).

 هذا هو موقف النساء المؤمنات مما شرع الله لهن، موقف المسارعة إلي تنفيذ ما أمر، واجتناب ما نهي، بلا تردد ولا توقف ولا انتظار، أجل لم ينتظرن يوما أو يومين أو أكثر حتي يشترين أو يخطن أكسية جديدة تلائم غطاء الرؤوس، وتتسع لتضرب علي الجيوب، بل أي كساء وجد، وأي لون تيسر، فهو الملائم والموافق، فإن لم يوجد شققن من ثيابهن ومروطهن، وشددنها علي رؤوسهن، غير مباليات بمظهرهن الذ يبدون به كأن علي رؤوسهن الغربان، كما وصفت أم المؤمنين.(15)

 


 

(1)    سورة التوبة / 60.
(2)    سورة النساء / 11.
(3)    سورة النساء / 12، 13.
(4)    سورة النساء / 176.
(5)    سورة الطلاق / 1.
(6)    سورة الطلاق / 5.
(7)    سورة الممتحنة / 10.
(8)    سورة النساء ـ 65.
(9)    سورة المائدة / 90.
(10)    سورة المائدة / 91.
(11)    انظر الحديث في: المسند ( 378 ) وإسناده صحيح، وأخرجه الحاكم ( 2 / 278 ) وصححه علي شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وللمزيد في موقف المسلمين من تحريم الخمر، انظر: عمدة التفسير ( 1 / 724 - 728 ).
(12)    سورة النور / 31.
(13)    أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) رقم ( 4758 ).
(14)    ذكره ابن كثير في تفسيره لآية النور نقلا عن ابن أبي حاتم.
(15)    انظر الخصائص العامة للإسلام ص 35 وما بعدها بتصرف.



بحث عن بحث