- الآثار التربوية لشمول العبادة:

إن شمول معنى العبادة في الإسلام – كما شرحناه – له آثار مباركة في النفس والحياة يحسها الإنسان في ذاته. ويلمسها في غيره، ويرى ظلالها في الحياة من حوله، وأبرز هذه الآثار وأعمقها أمران:

الأول: أنه يصبغ حياة المسلم وأعماله فيها بالصبغة الربانية، ويجعله مشدوداً إلى الله في كل ما يؤديه للحياة.

فمثلا العبادات المتمثلة في الشعائر – صلاة وزكاة وصوم وحج - ليست خاضعة للمتغيرات الزمانية والمكانية، ولا قابلة للتطوير والتعديل، ولا متعرضة للحرارة والبرودة بحسب سخونة الحاجات القائمة أو برودة الحاجات المنتظرة، فهي شرعت أصلا لتكون صلة دائمة بين العبد وخالقه، فلا ينسى لحظة واحدة أنه مربوب لرب العالمين.

وهذه العبادات تقوم بتنظيم حياة المسلم اليومية (بالصلاة) وحياته الغذائية السنوية  (بالصوم) وحياة المجتمع المسلم الاقتصادية المتكافلة (بالزكاة) كما تقوم بتنظيم وإحياء وحدة المجتمع الإسلامي الكبير والروابط والمشاعر الاجتماعية للأمة الإسلامية كلها في شتى أصقاع الأرض (بالحج).

وهذه الأعمال التعبدية، والرياضيات الروحية، تضرب بجذورها في أعماق المسلم، فتجده في كل أعماله يؤوب إلى ميزانها، إن عمل عملاً وزنه بميزان عبادته –هل راقب الله في كسبه كما راقبه في صلاته ؟  هل راقب الله في علاقته بصحبه كما راقبه في أداء حجه؟ هل راقب الله في إشباع غرائزه كما راقبه في تأدية زكاته ؟ من هنا يحرص المسلم على أن تنضوي أعماله تحت راية العبادة، وتتطوق أفعاله ضمن إطار العبادة، فلا يطلب الدنيا إلا والله أمامه، ولا يطلب الآخرة إلا والله أمامه .

لا عجب إذن أن نرى المسلم في صلاته يذكر الله وكأنه يراه، كما ورد في الحديث الشريف عن مقام الإحسان، فإذا فرغ من صلاته ونال نصيبه من قرى ربه، خرج من المسجد وقلبه متعلق به، ولسانه لاهج بذكره، فاستأنف نشاطه المعتاد، وعينه على حالها من رؤية الله، وقلبه على حاله من خشية الله، فلا يمد عينه على محرم، ولا يبسط يده بمنكر، ولا يلقي سمعه لفاحشة، ولا يحرك لسانه بإثم، ولا يسعي برجله إلى شبهه، وهكذا يصبح عمل المسلم كله عبادة.

وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع. وكل إنتاج صالح، وكل ما ييسر له ولأبناء نوعه الإنتفاع بالحياة، على أمثل وجوهها، فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله عز وجل.

كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده وإتقانه، ما دام يقدمه هدية إلى ربه سبحانه، ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته.

والثاني:  أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة، ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضي ربا واحدا، في كل ما يأتي ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله: الديني والدنيوي، لا انقسام ولا صراع، ولا ازدواج في شخصيته ولا في حياته.

إنه ليس ممن يعبدون الله في الليل، ويعبدون (المجتمع) في النهار.

وليس ممن يعبدون الله في المسجد، ويعبدون (الدنيا) أو (المال) في ساحة الحياة.

وليس ممن يعبدون في يوم من أيام الأسبوع ثم يعبدون ما سواه ومن سواه سائر أيام الأسبوع.

كلا إنه يعبد الله وحده حيثما كان، وكيفما كان، وفي أي عمل كان فوجه الله لا يفارقه في عمل ولا حال، ولا زمان (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة / 115].

وبهذا ينصرف همه كله إلى الله، ويجتمع قلبه كله على الله، ولا يتوزع شمل حياته وفكره وإرادته ووجدانه بين شتى الاتجاهات، والتيارات والانقسامات.

إن حياته كلها وحدة لا تتجزأ، منهجه فيها عبادة الله، وغايته رضوان الله، ودليله وحي الله(1).


 

(1)     العبادة في الإسلام ص 65-67، القرآن الكريم رؤية تربوية ص 49-50.

 



بحث عن بحث