السلف وشمول العبادة

 

وهذه المعاني الشاملة لمفهوم العبادة لم تكن مجهولة عند أسلافنا، غير أنها لما غابت من حياة الناس العملية، أصبح الرجل المسلم لا يرى صورة الدين إلا في عبادات فردية أو جماعية محصورة، وحيل بين المسلمين وبين الفهم الصحيح لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ونهج السلف الصالح في تطبيق هذا الدين وانخدع كثير من المسلمين بالدعوات المضللة القائلة بأن الدين لا دخل له في تدبير شؤون الأمة، وساعد على ذلك سكوت أهل الحق من ذوي العلم والرأي، وجمود أهل العلم عن البيان وإيجاد الحلول للقضايا المتجددة  في حياة الناس.

والمتتبع لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة أصحابه وتابعيهم رضي الله عنهم جميعا يجد أدلة مستفيضة، وحياة زاخرة بالبراهين على أن العبادة المطلوبة من العبد  هي كمال خضوع العبد  لأمر الله سبحانه في كل شأن من شؤونه،وأن عمله في هذه الحياة وسعيه وتصرفه وتعامله مع الناس جميعا إنما يكون وفق منهج مرسوم، هو منهج الله عز وجل الذي لم تشأ حكمته سبحانه أن يخلق هذا الإنسان ثم يتركه ضائعا تتجاذبه الأهواء والشهوات والنظريات الباطلة الجائرة.

فعن عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير الأنصاري رضي الله عنهما يرتميان فمل أحدهما فجلس، فقال له الآخر: كسلت؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو – أو سهو – إلا أربع خصال، مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة(1).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ فقال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا،أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشى مع أخ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد المدينة – شهرا، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام)(2).

ورضي الله عن سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان شمول العبادة أمراً واضحا لديهم لا لبس فيه ولا غموض.

أخرج الطبري في تاريخه من خبر بكر بن عبد الله المزني قال: جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبد الرحمن بن عوف فضربه، فجاءت المرأة ففتحته... إلى أن قال: وعبد الرحمن بن عوف قائم يصلي، فقال له – يعني عمر – تجوز أيها الرجل – يعني خفف صلاتك – فسلم عبد الرحمن حينئذ، ثم أقبل عليه فقال: ما جاء بك هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟. فقال: رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق نحرسهم... إلخ(3).

ففي هذا الخبر فهم عميق لمجالات العبادة، وتقديم الأهم على المهم، فإذا كانت الصلاة عبادة فخدمة المسلمين أيضا عبادة، وما دامت الصلاة نفلا فإن ما نزل من حاجة المسلمين مقدم على ذلك، لأن الصلاة عبادة يقتصر نفعها على صاحبها، وخدمة المسلمين عبادة يتعدى نفعها للمسلمين.

وذكر الإمام البغوي عن الشعبي قال: خرج ناس من أهل الكوفة إلى الجبانة – أي الصحراء- يتعبدون، واتخذوا مسجدا وبنوا بنيانا، فأتاهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقالوا: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن ! لقد سرنا أن تزورنا، قال: ما أتيتكم زائرا، ولست بالذي أترك حتى يهدم مسجد الجبان، إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أرأيتم لو أن الناس صنعوا كما صنعتم،من كان يجاهد العدو؟ ومن كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر؟ ومن كان يقيم الحدود؟ ارجعوا فتعلموا ممن هو أعلم منكم، وعلموا من أنتم أعلم منهم، قال: واسترجع فما برح حتى قلع أبنيتهم وردهم(4).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهرا أو جمعة أو ما شاء الله أحب إلى حجة بعد حجة، ولطبق بدانق أهديه إلى أخ في الله أحب إلى من دينار أنفقه في سبيل الله عز وجل)(5).

ورحم الله ابن المسيب حين قال له مولاه برد: ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء؟ قال سعيد وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه يصلي حتى العصر. فقال سعيد: ويحك يا برد ! أما والله ما هي بالعبادة، تدري ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله، والكف عن محارم الله(6).

 لقد وقر في حس هذا الجيل أن جميع الأعمال لابد أن تتوجه إلى الله حتى تكون طاعة وعبادة،حتى إن عمر بن عبد الله قال لامرأته وهي ترضع ابنا لها: (لا يكونن رضاعك لولدك كرضاع البهيمة ولدها، قد عطفت عليه من الرحمة بالرحم، ولكن أرضعيه تتوخين ابتغاء ثواب الله، وأن يحيا برضاعك خلق عسى أن يوحد الله ويعبده)(7).

وهذا ما ينبغي أن يعيه الجيل المعاصر في مفهوم العبادة وأبعادها.

 


 


(1)     
عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (5/269) للطبراني في الكبير، وقال: رجاله رجال الصحيح، خلا عبد الوهاب بن بخت وهو ثقة، وقال المنذري في الترغيب (1/ 381) رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد، 
(2)     قال المنذري في الترغيب (2/ 704) رواه الأصبهاني واللفظ له، ورواه ابن أبي الدنيا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمه، وحسنة الألباني في الصحيحة (906).
(3)     تاريخ الطبري (4/205).
(4)     شرح السنة (10/54- 55).
(5)     صفة الصفوة (1/ 753).
(6)     الطبقات الكبرى 5/ 135، سير أعلام النبلاء (4/ 241).
(7)     نصيحة الملوك للماوردي ص 166.



بحث عن بحث