- صحح وجهتك تكن كل حياتك عبادة :

بحسب المسلم أن ينظر إلى نفسه على أنه خليفة لله في الأرض، مهمته أن ينفذ أمره، ويقيم حدوده، ويعلى كلمته، ويقوم بواجب العبودية له تعالى.

بحسبه ذلك لتصطبغ أعماله كلها بصبغة ربانية، وليكون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وحركات وسكنات عبادة لله رب العالمين.

وهذا هو الموافق لما تعطيه الآية الكريمة من معنى كبير : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات /57]. فأين هي العبادة التي جعلها الله غاية لخلقهم إذا حصرنا معنى العبادة في تلك الشعائر التي لا تستغرق إلا دقائق معدودات من يوم الإنسان وليلته، أما جل الوقت ففي معترك الحياة، ويعجبني ما قاله هنا الشيخ محمد الغزالي(1).

(إن الإسلام ليس أفعالا تعد على الأصابع دون زيادة أو نقص، كلا، إنه صلاحية الإنسان للمسير في الحياة وهو يؤدي رسالة محددة .

فالمهندس الذي يصنع آلة ما لا يعنيه كم تنتج من السلع والأدوات، وإنما يعنيه أن تكون أجهزتها مستعدة على الدوام لإنجاز ما تكلف به.

فصلاحية الطيارة للإنطلاق، وصلاحية المدفع للقذف، وصلاحية القلم للكتابة، هذه الصلاحيات هي مناط الحكم على قيمة الشيء، فإذا أطمأننا إلى وجودها قبلناها ورجونا ثمرتها.

كذلك الإنسان، إن الإسلام يريد أن تستقيم أجهزته النفسية أولاً، فإذا توفرت لها صلاحيتها المنشودة، بصدق اليقين، وسلامة الوجهة، فكل عمل تتعرض له في الحياة يتحول من تلقاء نفسه إلى طاعة لله، إن آلة سك النقود يدخلها المعدن الغفل (الخام) فيخرج منها عملة مالية غالية الثمن، تحمل من الألوان والأختام والشارات ما يجعلها شيئا آخر. كذلك المسلم يعالج ما يعالج من شئون الدنيا، فيضفي عليه من طبيعة إيمانه وسناء وجهته، ما يجعل أي عمل يقبل عليه يتحول في يده إلى عبادة غالية القدر.

وبهذه الصلاحية النفسية رفض الله دعوى أصحاب الدعاوي الذين اغتروا (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة /111-112].

في شئون الحياة ليس للأعمال الصالحة حصر تنتهي عنده ولا رسم تخرج فيه، إنما هو إسلام الوجه لله وإصلاح العمل والبلوغ به حد الكمال المطلوب..)(2).

- شمول العبادة لكيان الإنسان كله :

هذا هو المظهر الثاني  لشمول العبادة في الإسلام.

فكما شملت العبادة في الإسلام الحياة كلها، استوعبت كذلك كيان الإنسان كله.

فالمسلم يعبد الله بالفكر، ويعبد الله بالقلب، ويعبد الله باللسان، ويعبد الله بالسمع والبصر وسائر الحواس، ويعبد الله ببدنه كله، ويعبد الله ببذل المال، ويعبده ببذل النفس، ويعبده بمفارقة الأهل والوطن.

المسلم يتعبد لله بالفكر، عن طريق التأمل في النفس والآفاق، والتفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، والتدبر لآيات الله المنزلة وما فيها من هدي وحكمة، والنظر في مصابر الأمم وأحداث التاريخ وما فيها من عظة وعبرة، فهذا كله مما يتقرب به المسلم إلى الله الذي أنزل كتابه إلى الناس (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [سورة ص /29] . ودعاهم في محكم كتابه إلى إعمال العقل نظراً وتفكراً وتعلماً (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [سورة الذاريات /20-21]، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [سورة آل عمران /190-191].

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره)(3).

وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله فتهلكوا)(4).

وقد ورد عن ابن عباس : تفكر ساعة خير من قيام ليلة(5).

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (من سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقا إلى الجنة)(6).

وعن ابن عباس قال : (تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائها)(7).

ويتعبد المسلم لله بالقلب عن طريق العواطف الربانية والمشاعر الروحية، مثل : حب الله وخشيته، والرجاء في رحمته والخوف من عقابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحياء منه، والتوكل عليه، والإخلاص له، قال تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)[سورة البينة /5] (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [سورة الأنعام / 162-163].


 


(1)
    
في كتاب(هذا ديننا) س 84.
(2)      العبادة في الإسلام ص 53-65 بتصرف.
(3)      عزاه السيوطي في الجامع الصغير (3346) لأبي الشيخ في كتاب العظمة، ورمز له بالضعف.
(4)      عزاه السيوطي في الجامع الصغير (3347) لأبي الشيخ في كتاب العظمة، ورمز له بالضعف.
(5)      رواه أبو الشيخ موقوفا، وروى مرفوعا بإسناد ضعيف من حديث أبي هريرة (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة) رواه أبو الشيخ في كتاب العظمة.
(6)      أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، رقم (6853).
(7)      أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة، باب العمل بالعلم وحسن النية فيه، رقم (268).



بحث عن بحث