- أنواع من العبادات منسية أكدت عليها السنة:

إن من العبادة التي يغفلها كثير من الناس: الخضوع لشرع الله، والانقياد لأحكامه التي أحل بها الحلال وحرم الحرام، وفرض الفرائض، وحد الحدود.

فمن أدى الشعائر وصلى وصام وحج واعتمر، ولكنه رضي أن يحتكم في شئون حياته الخاصة والعامة، أو في شئون المجتمع والدولة، إلى غير شرع الله وحكمه، فقد عبد غير الله، وأعطى غيره ما هو من خالص حقه سبحانه.

إن الله وحده هو المشرع الحاكم لخلقه، لأن الكون كله مملكته، والناس جميعا عباده، وهو وحده الذي له أن يأمر وأن ينهي، وأن يقول: هذا حلال، وهذا حرام، بمقتضى ربوبيته وملكه وألوهيته للناس، فهو رب الناس، ملك الناس، إله الناس.

فمن ادعى من الخلق أن له أن يشرع ما يشاء، أمراً ونهياً وتحليلاً وتحريماً، بدون إذن من الله، فقد تجاوز حده، وعدا طوره، وجعل نفسه ربا أو إلها من حيث يدري أو لا يدري!.

ومن أقر له بهذا الحق، وانقاد لتشريعه ونظامه، وخضع لمذهبه وقانونه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فقد اتخذه ربا، وعبده مع الله، أو من دون الله، ودخل في زمرة المشركين من حيث يشعر أو لا يشعر!.

إن القرآن الكريم دمغ أهل الكتاب بالشرك، ورماهم بأنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم، واتخذوهم أرباباً من دون الله، وذلك حين أطاعوهم واتبعوهم فيما شرعوا لهم مما لم يأذن به الله.

قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [ سورة التوبة /31 ].

وقد فسر هذه الآية أعلم الناس بمراد ربه – عز وجل – من كلامه، وهو الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، والذي أوحى الله إليه هذا القرآن ليبينه للناس ولعلهم يتفكرون، فلنصغ إلى التفسير النبوي الكريم لهذه الآية الكريمة.

روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير – من طرق – عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي إلى المدينة – وكان رئيسا في قومه وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم – فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال: فقلت: إنهم له يعبدوهم! فقال: (بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا له الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم)(1).

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ): إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا(2).

 

- حتى أعمال الغريزة وقضاء الشهوة:

على أن الأروع أن تشمل العبادة الحاجات الضرورية التي يؤديها المسلم استجابة لدافع الغريزة البشرية، فالأكل والشرب ومباشرة الزوج لزوجته، وما كان من هذا القبيل يدخله الإسلام في دائرة العبادة الفسيحة بشرط واحد هو (النية). فالنية هي المادة السحرية العجيبة التي تضاف إلى المباحات والعادات فتصنع منها طاعات وقربات.

وأوضح شاهد على ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

(وفي بضع(3) أحدكم صدقة قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)(4). قال العلماء: وهذا من تمام رحمة الله على عباده، يثيبهم على ما فيه قضاء شهواتهم إذا نووا أداء حق الزوجة وإحصان الفرج ولله الحمد.


 

(1)      مسند أحمد (4/378) وسنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، رقم (3095)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالسلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث، وتفسير ابن جرير الطبري (10/114) وصححه الألباني.

(2)      تفسير ابن كثير ج 2ص 349.

(3)      البضع: قال في القاموس: الجماع أو الفرج نفسه.

(4)     أخرجه مسلم والترمذي، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدفة يقع على كل نوع من المعروف، رقم (2329).



بحث عن بحث