- العبادة تسع الحياة كلها:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدمين، والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة).

(وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله)(1).

وهكذا نجدا أن للعبادة – كما شرحها ابن تيمية – أفقا رحباً ودائرة واسعة، فهي تشمل الفرائض والأركان الشعائرية من الصلاة والصيام والزكاة والحج.

وهي تشمل ما زاد على الفرائض من ألوان التعبد التطوعي من ذكر وتلاوة ودعاء واستغفار، وتسبيح وتهليل وتكبير وتحميد.

وهي تشمل حسن المعاملة والوفاء بحقوق العباد، كبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان لليتيم والمسكين وابن السبيل، والرحمة بالضعفاء، والرفق بالحيوان.

وهي تشمل الأخلاق والفضائل الإنسانية كلها، من صدق الحديث، وأداء الأمانة،والوفاء بالعهد، وغير ذلك من مكارم الأخلاق.

كما تشمل ما نسميه بـ (الأخلاق الربانية) من حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه.

وأخيراً تشمل العبادة الفريضتين الكبيرتين اللتين هما سياج ذلك كله وملاكه وهما:

1-   الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2-   وجهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله.

بل تشمل العبادة أمراً له أهميته وخطره في الحياة المادية للناس، ذكره ابن تيمية في موضع آخر من رسالته، وهو الأخذ بالأسباب، ومراعاة السنن التي أقام الله عليها الكون قال: (فكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة)(2).

وأكثر من ذلك ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: أن الدين كله داخل في العبادة، إذ الدين يتضمن معنى الخضوع والذل يقال: دنته فدان، أي أذللته فذل، ويقال: يدين الله ويدين لله، أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له.

فدين الله: عبادته وطاعته والخضوع له، والعبادة أصل معناها الذل أيضاً(3).

إن مقتضى عبادة الإنسان لله وحده: أن يخضع أموره كلها لما يحبه تعالى ويرضاه، من الاعتقادات والأقوال والأعمال، وأن يكيف حياته وسلوكه وفقا لهداية الله وشرعه، فإذا أمره الله تعالى أو نهاه، أو أحل له أو حرم عليه كان موقفه في ذلك كله، سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.

ففرق ما بين المؤمن وغيره: أن المؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لربه، خرج من طاعة هواه إلى طاعة الله، ليس المؤمن (سائبا) يفعل ما تهوى نفسه أو يهوى له غيره من الخلق، إنما هو (ملتزم) بعهد يجب أن يفي به: وميثاق يجب أن يحترمه، ومنهج يجب أن يتبعه، وهذا التزام منطقي ناشيء من طبيعة عقد الإيمان ومقتضاه.

مقتضى عقد الإيمان: أن يسلم زمام حياته إلى الله، ليقودها رسوله الصادق، ويهديه الوحي المعصوم.

مقتضى عقد الإيمان: أن يقول الرب: أمرت ونهيت، ويقول العبد: سمعت وأطعت.

مقتضى عقد الإيمان: أن يخرج الإنسان من الخضوع لهواه إلى الخضوع لشرع مولاه.

وفي هذا يقول القرآن الكريم: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [ سورة الأحزاب / 36]. ويقول: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [ سورة النور / 51 ].

ليس بعابد لله إذن من قال: أصلي وأصوم وأحج، ولكني حر في أكل لحم الخنزير، أو شرب الخمر، أو أكل الربا، أو رفض ما لا يروقني من أحكام الشريعة، فأحكم فيه بغير ما أنزل الله!.

 ليس بعابد لله من أدى الشعائر، ولكنه لم يخضع لآداب الإسلام وتقاليده في نفسه أو أهله، كالرجل الذي يلبس الحرير الخالص ويتحلى بالذهب، ويتشبه بالنساء، والمرأة التي تلبس ما يبرز مفاتنها، ولا يغطي جسدها، ولا تضرب بخمارها على جيبها.

ليس بعابد لله من ظن أن عبوديته لله لا تعدو جدران المسجد، فإذا انطلق في ميادين الحياة المتشعبة، فهو عبد نفسه فقط، وبعبارة أخرى: هو حر في اتباع هواها، أو اتباع أهواء عبيد أنفسهم من المخلوقين(4).


 

(1)      العبودية ص 38 ط المكتب الإسلامي. ثانية.

(2)      العبودية ص 73.

(3)      انظر: العبودية ص 43- 44.

(4)      العبادة في الإسلام ص 53-54.



بحث عن بحث