خصائص التربية فى القران الكريم

 

بقلم: أبي عبد الله محمد سلامة جبر

تعاني المجتمعات الاسلامية اليوم من التخبط والتذبذب فى اختيار منهج يصلح للحياة , بعدما تركت منهجها , فتراها تارة تسلك المنهج الاشتراكى وتارة  الرأسمالي وهكذا كلما رأت مجتمعا متفوقا ويبنى حضارة انبهروا به واخذوا منه .

مما حدا بواضعي المناهج الاصلاحية والتربوية فى العالم الاسلامى بالتطبيق الحرفى للنظريات والأفكار والإيديولوجيات الاجنبية , غير مكترثين بظروف المجتمعات وخصوصياتها وخلفياتها الثقافية والدينية , وان ما يصلح لمجتمع ما ربما لا يصلح للآخر , لاسيما مجتمعنا الاسلامى .

وفى ظل انبهارهم بالغرب نسوا او تناسوا مناهجهم الاسلامية النابعة من كتاب الله وسنة نبيه , التى راعت جميع جوانب الانسان بجنسيه على المستوى الفردى والجماعى , لا تهتم بجانب على اخر , فقامت عليها الحضارة بشقيها المادى والمعنوى , قادت البشرية الف ومائتى عام , لم يظلم فى ظلها احد , فشهد لها الغرب والشرق .

لذلك سنحاول من خلال هذه الكلمات القاء الضوء على خصائص وسمات التربية فى القران الكريم كلام الله المعجز وكتاب التربية الاول والأخير للبشرية لاسيما المسلمون , الذى ينبغى ان تستقى منه مناهجها وأساليب حياتها .

1 – الربانية :

أولى خصائص التربيه القرآنيه ومصدرها , فالإنسان من صنعه فليس هناك من هو أعلم من الله بمفاتيح قطره الانسان ودوائه وعلاجه , لان كل صانع أدرى بصنعته قال تعالى :( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ){ الاسراء : 82 } , كما قال تعالى أيضا: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ){ الاسراء : 9 }.

ويراد بالربانية أمران :-

1- ربانيه المصدر              2- ربانيه الغايه 

وإذا كان ربانيه المنهج تعنى أنه منهج سماوى وضعه خالق الانسان , إذاً هو منهج لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , منهج تدل به جبريل على الامين ,وهذا المنهج الربانى لا يعنى تعطيل لجهود البشر عن الاجتهاد و التفكير فى هذا الكون والمعرفة بأسراره , بل العكس فالقرآن يأمر ويحض على التدبر والتفكير و التعقل , فهو يضع أمام البشرية حقائق وأُصول وصور العبادات , وأنماط المعاملات والصفات التى ينبغى أن يكون عليها الانسان , أما ما يتعلق بالعلم وتطبيقاته , ووسائا النهوض بالمجتمع وطرق المعيشة فهى متروكة للبشر ما دامت لا تخرج عن المبادئ والأصول التى وضعها القرآن .

لذلك بالمنهج القرآنى لا يقف حجر عثرة فى سبيل تقدم البشرية وازدهارها , كما هو حال الديانات الاخرى , بل يحث على الاجتهاد ويضع له معايير, ويلوم ويذم عدم أعمال العقل والتفكير فى الكون الفسيح , لذلك فلن تجد البشرية الرشد ولا الهدى ولا الراحة ولا السعادة إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى الربانيه .

وإذا نظرنا فى تاريخ البشرية لوجدنا أن المنهج القرآنى قد تسلم قياده البشرية بعد ما فسدت الارض وظهر الفساد وقال تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) { الروم : 41 } , وانظر إلى المجتمع الجاهلى الذى كانت تشيع فيه مكاره الاخلاق والفرقة وروح العصبيه و النزعه القبيلية التى كانت تؤدى إلى القتال وما كانوا عليه من التخلف العقلى الذى أدى بهم إلى السجود لحجر لا يعز ولا ينفع , فحينما تسلم المنهج القرآنى القياده تحولوا فى مده زمنيه قليله جداً من مجتمع جاهلى إلى مجتمع يكاد يتصف بالمثالية , أدى به الحال أن يقود البشرية ما يقرب من ألف عام فى ظل هذا المنهج الربانى .

فلقد سقطت أمام هذا المنهج الفريد كل المناهج التى وضعها الانسان لتربيه الانسان على مر العصور وتهافتت البشريه على هذا المنهج الربانى القويم فدخل الناس فى دين الله أفواجا , ليتخلوْا عن الظلم والقهر والفساد ألم به من المناهج الوضعيه , وعندما تخلى المسلم عن منهجه الربانى وتتطلع إلى المناهج الوضعيه تخلف وتأخر عن ركب الحضارة , وأطلق على دوله دول العالم الثالث وصدق رسول الله صل الله عليه وسلم إذ يقول  ( يا أيها الناس ! إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) (1) .

2- الشمول :  

تشمل التربيه القرآنيه الفرد فى حياته الدنيويه وكذلك حياته الأخروية , وحياته الخاصة والعامة , كما تشمل المجتمع فى علاقه أفراده بعضهم وعلاقتهم بالمجتمعات الاخرى وكذلك علاقة المجتمعات ببعضها البعض , كما تشمل الانسان بكيانه الجسد والروح قال تعالى :( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ){ المائده : 3 } .           

يتجلى من خلال التربيه القرآنيه شملت الانسان فى كل تصرفاته وحركاته وسكناته  , فكل ما يتعلق بالفرد قد وضعت له التربيه القرآنيه ما يصلحه , وما فيه سعادته فى دنياه وآخرته , قال تعالى :( أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ) { القيامه : 36 } , بل تعاملت معه فى حدود إمكاناته وقدراته التى خلقه الله بها ولم تكلفه فوق ما يطيق .

قال تعالى :( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) { الانعام : 38 } , أي لم يترك الله سبحانه فى الكتاب شيئاً لم يبينه , وإنما اشتمل القرآن على شيء , وكل ما من شأنه صلاح البشرية وهدايتهم , اعتمد فى ذلك على الدليل والبرهان المستمد من العقل .

3- التكامل :

يقصد بالتكامل , أن التربيه القرآنيه ذات منهج متكامل فى كل مناحى الحياة , أخلاقيه أو اقتصادية أو سياسيه أو دينيه إلى غير ذلك , يتحقق من خلال هذا التكامل التوازن والتوافق بين الانسان و نفسه , وبينه وبين المجتمع الذى يعيش فيه , وبين المجتمعات بعضها لبعض , قال تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ){ المائده : 3 }  .

كما أن التكامل يعنى أن اتجهات التربيه القرآنيه فى مجالات العقيدة والعبادة والسلوك الفردى والاجتماعى ترتد كلها فى وحده محكمه وفى صوره شاماه للحياة كلها أى وحده المصدر وهو الله , وكذلك إلى وحده الموضوع وهو الانسان , وأيضاً وحدة الغاية وهى العبودية لله الواحد الأحد , قال تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا){ النساء : 82 } , يستنكر القرآن فى هذه الآيه عدم تدبر المنكرين له فى تشريعاته و أحكامه و توجيهاته وأوامره ونواهيه , ولو كان من غير الله لوجدوا فيه إختلافاً كثيراً فضلاً عن الاختلاف القليل , ولكن لأنه من عند الله وحده تنزه عن كل ذلك بل لو فعلوا لوجدوه متكاملاً متناسقاً متناغماً يكمل ويؤكد ويوضح بعضه بعضاً .

4- الوسطيه :

وهذه الوسطيه لا تعني وسطاً حسابياً أو معيارياً , إنما هى اعتدال وقسط قال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) { البقره : 143 } 

, فكلمة وسطاً تعنى الافضل وهو التوسط بين الاطراف , لا تفريط ولا مغالاة وهذه المعانى توفرت فى هذه الأمة الرائده لتكون شهيدة على الناس أمام الله .

وإذا كان الانسان يتكون من جسد وروح , ولكل منهما حاجاته ومتطلباته , فإن منهج التربيه القرآنيه قد راعى ذلك بشكل متوازن , بحيث لا يطغى الاهتمام بجانب على حساب الاخر , ولكنها أولت كل من الجسد والروح من العناية والاهتمام ما يصلحهما معاً , فلا هي اهتمت بالجسد على حساب الروح كما فعل اليهود , ولا الروح على الجسد كما فعل النصارى , لذلك تعتبر التربيه القرآنيه حسنه بين سيئتين , وفضيلة بين رذيلتين , وهى بذلك تقف موقفاً وسطاً بين تطرف الماديين وتشدد الرهبانين قال تعالى : " وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " { القصص : 77 } , وقال تعالى : " يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " { الاعراف : 31 } .

لقد نهت التربية القرآنية عن التشدد والرهبانية , وذلك يبدو جلياً من خلال قوله صلى الله عليه وسلم " هلك المتنطعون وكررها ثلاثاً " كما نهت أيضاً عن البخل لأنه يفرط فى حق النفس والآخرين والنهي عن التبذير لأنه إفراطاً فى الانفاق , قال تعالى : (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ){ الاسراء : 29 } , وقال تعالى :( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ){ الفرقان : 67 } .

5- الواقعية :

تنطلق التربيه القرآنيه من منهج واقعى فى النظر إلى الطبيعة الانسانية من خلال كون البشر مختلفون فيما بينهم , متنوعون فى صفاتهم , متعددون فى فصائلهم , قال تعالى :( وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ) { الروم : 22 } , فهذا المنهج التربوى الواقعى يتعامل مع الفرد على أساس احتمال الخطأ والاصابة بعيداً عن المثاليه والكمال , فالكمال لا يكون إلا لله عز وجل , فهى ليست تتعامل مع مثاليات لا وجود لها فى عالم الواقع , فهى تبغى الوصول بالفرد المؤمن , إلى ذلك الفرد الذى يأتمر بما أمره به ربه وينتهى عما نهاه عنه قال تعالى : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ  ) { البقره : 286 } .

يقول محمد قطب : إن الاسلام يأخذ الكائن البشرى بواقعه الذى هو عليه , يعرف حدوده وطاقاته , ومطالبه وضروراته , ويقرر هذا وتلك , ويعرف ضعفه إزاء المغريات وضعفه إزاء التكاليف ويعرف كل هذا فيساير فطرته فى واقعها ولا يفرض عليه من التكاليف ما نبؤ به كاهله ويعجز عن أدائه , ويجعل الملزمه فى حدود الطاقة الممكنه , ولكن مع ذلك لا يتركه لفطرته الضعيفة دون تقويم .

6- الوضوح :

يتسم منهج التربيه القرآنيه بالوضوح , لا يشوبه نقص , ولا يعتر به شك , ولا يدخله الغموض والإبهام , فأوامره ونواهيه وتوجيهاته ومواعظه واضحة جلية , قال تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ){ المائده : 15-16 }  , به يبصر العبد إلى الصلاح والفلاح قال تعالى : ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) { الاعراف : 203 } .

7- اليسر والسهوله :

تتسم التربية القرآنيه بسهوله مبادئها وتعاليمها , وعدم الارهاق والمشقة فى الالتزام بها فهى تسير فى حدود الطاقة البشرية, قال تعالى : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ  ){ البقره : 286 } , وقال تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) { النساء : 28 }.

 

8- الايجابيه العمليه [ الفعاليه ] :

من سمات التربية القرآنية , فهي لا تطلب من الفرد أن يتعلم العلم سواء دنيوياً أو دينياً فقط , ولكنها تطلب منه العمل بالعلم وعدم كتمانه , بل تُحرم عليه كتمانه , قال تعالى : ( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ  ) { البقره : 140 } .

لذلك هذا المنهج يحث على العلم والعمل والتعليم , فلابد من الإتيان بالثلاثة معاً مجتمعين فكل من يتربى على المنهج القرآني فلابد أن يكون إيجابياً فعالاً مع نفسه , ومع مجتمعه يعمل بما تعلم حتى يكون مؤمناً , قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ  ){النحل : 97 } , وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) { الصف : 2-3 }  

وتدبر مدى التحذير من الانزواء على النفس قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) { هود : 28 } , قال مصلحون ولم يقل صالحون , أي أن الصلاح الشخصي لا يمنع عنهم شيئاً , وعلى ذلك فالتربية القرآنية تتطلب من الفرد أن يكون صالحاً مصلحاً , وراشداً مرشداً .

9- التدرج فى التربيه :

يقرر القرآن الكريم أن التربية ليست عمليه تحول مفاجئ فى السلوك , وإنما هى عمليه تحتاج إلى تدرج فى التوجيه شيئاً فشيئاً , حتى تأتي هذه العمليه ثمارها المرجوة .

وهذا التدرج قد اختاره الله تعالى لنفسه فى إنشاء هذا الكون , فإن الله سبحانه وتعالى مع قدرته وحوله لم يخلق الكون دفعه واحده ولا حتى الانسان الضعيف وإنما هى سنته فالتدرج مع إنه سبحانه قادراً على أن يقول لشيء كن فيكون , ولكنها حكمته سبحانه فى خلقه , قال تعالى : ( مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ  ) { مريم : 35 } .

لذلك فإن من طبع الانسان أنه لا يتغير فجأة , إنما يحتاج إلى تقديم وتقريب وتجريب وحث على التغير حتى يغير من سلوكه , قال الشاعر :

ومكلفَّ الاشياء فوق طباعها         متطلب فى الماء جذة نار 

وقد راعت التربيه القرآنيه التدرج , والتأمل فى القرآن الكريم يرى أن أول ما نزل من القرآن كان فى العهد المكى , حيثُ لم تثبت أركان الدعوة بعد , لذلك إذا نزل الامر بالعبادات وتحريم المنكرات إذا لارتاب المؤمنون ولازداد الكافرون كفراً وصداً عن سبيل الله , ولكن هذا المجتمع يحتاج إلى إقناع ودعوه إلى هذا الدين الجديد , لذلك كان أول ما نزل من القرآن كان تبشير وتحذير وتنبيه إلى عاقبه السابقون من الامم الذين كفروا برسلهم , ثم بعد هذه المرحله ومع بداية العهد المدنى نزلت الاوامر بالعبادات وتحريم المنكرات مع مراعاة التدرج.

ومن مظاهر هذا التدرج تحريم الخمر , كان الناس قبل بعثه النبى صل الله عليه وسلم يشربون الخمر ويحبونها وظل هذا الامر مستمراً حتى بعد بعثه النبى صلى الله عليه وسلم ولكن بعد بعثه النبى صلى الله عليه وسلم وبعد تثبيت أركان لدوله الاسلامية , كان لابد من تحريم الخمر والتى كان لها مفاسد ينؤ المقام عن ذكرها ولكن لو نزل الامر مباشراً بالتحريم دون تدرج مع هؤلاء الناس الذين آلفوها وعدوها جزءاً من حياتهم , لحدث ما لا يحمد عقباه , ولكن الله تعالى هو خالقها واعلم بما يصلح لهم , فبين سبحانه أن الخمر فيها منافع ولكن إثمها أكبر من نفعها , قال تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) { البقره : 219 } , فكانت هذه الآية تحذيراً لهم وتنبيهاً على خطرها , ثم نزل بعد ذلك التحريم في أثناء الصلاة تدرجاً معهم , قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) { النساء : 43 } , وكان هذا أمراً بتحريمها نهائياً  قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ  ){ المائده : 90 -91} 

_____________________________________

(1) [ أخرجه الترمذى " 2/308 " , و أخرجه الطبرانى " 2680 " , وأخرجه الالبانى فى السلسله الصحيحه " 4/355 " ]

 



بحث عن بحث