وقفات في السنة

 

مولاي الطيب العلوي كمال

 

وقفات في السنة  :

 في اللغة نقول سن السكين إذا أحده وتقول العرب : الحمض يسن الإبل على الخلة أي يقويها، وسننت الأرض صارت سننا وسنن الرمح إذا جعل له سنانا، والسنة جمع سنن وهو الوجه والصورة والطريقة والطبيعة والشريعة، والسنة الفأس لها خلفان أي حدان، والسنان نصل الرمح، والسنية فرقة كبيرة من المسلمين نسبة إلى السنة، وسنة الثوم الحبة منه. يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة :"السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولته والأصل قولهم سننت الماء على وجهي أسنه سنا إذا أرسلته إرسالا ثم اشتق منه رجل مسنون الوجه كأن اللحم قد سن على وجهه، والحمأ المسنون من ذلك كأنه قد صب صبا". واصطلاحا فالسنة النبوية تحمل هذه المعاني اللغوية لما فيها من جريان الأحكام واطرادها وصقل الحياة الإنسانية لقوله ? :"أوصيكم بتقوى الله والسمع الطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". وقال عليه السلام :" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". وفي اصطلاح الأصوليين تعني : أقوال النبي ? وأفعاله وتقريراته. وفي اصطلاح الفقهاء : ماصح عن النبي ? وليس بفرض ولا واجب مما يتاب على فعله ولا يعاقب على تركه. وفي اصطلاح المحدثين : كل ماأثر عن النبي ? من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلفية أو خلقية سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها. وجاءت السنة كذلك بمعنى الأمة في قوله تعالى :" قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ". والسنة في العرف الإسلامي العام هي التطبيق العملي لما أقر رسول الله ? أو ندب إليه أو نهى عنه وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم. قال عليه السلام : "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". والسنة هي الحكمة المبينة للقرآن والمتكاملة معه في توضيح المنهج الأقوم لتنظيم شؤون هذه الحياة في العقيدة والشريعة والأخلاق والسلوك. وامتن الله بالقرآن السنة ونظمهما معا في عقد واحد وجعل مناط هذا الإمتنان هو كونهما أنزلا على نبينا محمد ? دون أن يقتصر الإنزال والوحي على القرآن وحده، قال تعالى :" وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ "، وقال تعالى :" وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ". ففي الآية الأولى نرى أن قوله تعالى :" وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ " معناه إرسال الرسول عليه السلام بالهدى والبينات ، وفي قوله تعالى :" الْحِكْمَةِ " : يريد السنة. وفي الآية الثانية وردت الحكمة بنفس المعنى. والسنة بهذا من أفضل طرق التفسير للقرآن العظيم فهي شارحة وموضحة له ولهذا قال عليه السلام :"ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه". وقال تعالى :" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "، أي بيان القرآن وإظهاره بلسان الرسول ? وتبيين مافيه من الأحكام وما يتعلق بها من الحلال والحرام والتفصيل والإجمال والتقييد والإطلاق وما إلى ذلك. والبيان بهذا المعنى هو ماتكفلت به السنة بناءا على ما أراد الشارع وألهمه لرسوله عليه السلام. فبيان القرآن وتفسيره وتفصيل ما أجمل فيه لم يكن إلى رسول الله ? استقلالا وإنما كان وحيا يوحيه الله تعالى إليه فيبلغه عنه كما أراده وكلفه به. حيث يقول تعالى :" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ "، أو كان اجتهادا يلهمه الله الصواب فيه ثم يقره عليه. فما أوحاه الله تعالى إلى رسوله? لم يكن القرآن وحده وإنما كان القرآن والسنة، قال تعالى :" وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً "، وقال تعالى :" تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{13} وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ". وقال تعالى :" وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ "، وقال أيضا :" قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ". والفرق بين القرآن الوحي والسنة الوحي، هو أن القرآن يتلى كما أنزل مرتلا، أما السنة فلم تتقيد بهذا الشرط.

 السيرة : في اللغة : السير ، الذهاب ، ساير سير ومسيرا وتسايرا ومسيرة وسيرورة وتيسارا، نقول تساير عنه الغضب أي سار وزال ، ويقال : سار القوم يسيرون سيرا ومسيرا إذا امتد بهم السير في جهة توجهوا إليها. ويقال : بارك الله في مسيرك أي في سيرك. وسايره أي جاراه فتسايرا، وسيره من بلده أخرجه وأجلاه. وسيرت الجل عن ظهر الدابة إذا نزعته عنه. والسيارة القافلة، والقوم يسيرون أي الرفقة والجماعة. وسرت الدابة إذا ركبتها، وأسرت الدابة أردت بها المرعى. والسيرة الضرب من السير، والسيرة الكثير السير، والسيرة الطريقة والهيئة . وسار بهم سيرة حسنة أي طريقة حسنة. وقال تعالى :" قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى "وسير : حدث حديث الأوائل ، ومثل سائر أي شائع. واصطلاحا تطلق السيرة ويراد بها الطريقة السوية التي سار بها الرسول ? طوال حياته سواء في مكة أو المدينة قبل الدعوة أو بعدها. أي ماصار عليه ?من نهج سليم قبل الدعوة إلى نهايتها بوفاته. وهذا المصطلح غير خاص بالرسول ? وحده بل لكل واحد سيرته في الحياة سواء حذا في ذلك حذو الرسول ? أو حذا حذو غيره. وأطلقت السنة على السيرة والطريقة المعتادة كانت حسنة أو قبيحة، وبهذا فالسنة بمعنى الحديث على حد قول بعض المحدثين. وقد أورد ابن حجر العسقلاني الفرق بين السيرة والسنة بقوله :"باب المناقب كذا في الأصول التي وقفت عليها من كتاب البخاري، وذكر صاحب الأطراف، وكذا في بعض الشروح أنه قال كتاب المناقب، فعلى الأول هو من ناحية كتاب أحاديث الأنبياء، وعلى الثاني فهو كتاب مستقل، والأول أولى فإنه يظهر من تصرفه أنه قصد به سياق الترجمة النبوية بأن يجمع فيه أمور النبي ? من المبتدأ إلى المنتهى فبدأ بمقدماتها من ذكر مايتعلق بالنسب الشريف، فذكر أشياء تتعلق بالأنساب، ومن تم ذكر أمورا تتعلق بالقبائل، ثم النهي عن دعوى الجاهلية لأن معظم فخرهم كان بالأنساب، ثم ذكر صفات النبي ? وشمائله ومعجزاته واستطرد منها لفضائل أصحابه ، ثم أتبعها بأحواله قبل الهجرة، وما جرى له بمكة، فذكر المبعث، ثم إسلام الصحابة، وهجرة الحبشة، والمعراج، ووفود الأنصار، والهجرة إلى المدينة ، ثم ساق المغازي على ترتيبها عنده، ثم الوفاة. فهذا آخر هذا الباب، وهو من جملة تراجم الأنبياء وختمها بخاتم الأنبياء ?". وهذا القول هو الراجح في التمييز بين السيرة والسنة فالسيرة إذن خاصة والسنة عامة. و لما كانت السيرة النبوية أصلا من أصول الدين، تؤخد منها الأحكام والأخلاق والفضائل وغيرها، عنيت الأمة الإسلامية بالتحري في نقلها وتطهيرها وإزالة ما علق بها من آفات اليهود والكفار خصوصا وأن لهم جولات في تشويه السيرة النبوية وإخراجها عن مسارها الصحيح، فالتزموا طريق الوثوق بأهل الدين والحفظ والخشية، كما التزموا طرق التحري في المنقول ورد مالا يوافق صريح النص وحقيقة الحدث. وهذا نتيجة لحب المسلمين للرسول ?، قال تعالى :" قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ". فكان هذا من الأسباب التي صيرت القلوب تهفوا إلى محبته عليه السلام وتلتمس الأسباب التي توثق الصلة فيما بينها وبينه ?. فمنذ فجر الإسلام والمسلمون يتسابقون إلى إبراز محاسنه ونشر سيرته ، سواء أقواله أو أفعاله أو تقريراته أو أخلاقه الكريمة، فقد كان خلقه عليه السلام القرآن، والقرآن كتاب الله وكلماته التامة، ومن كان كذلك كان أحسن الناس وأكملهم وأحقهم بمحبة خلق الله جميعا. ومن يعمق النظر في سيرته عليه السلام، يرى أنه لم يكن له مثيل في الصبر على البلاء والثبات على الحق واستقرار التنفس واطمئنانها، ولا في الرحمة ورقة القلب والسمو والبعد عن الهوى. ومن هنا تبرز الأهمية القصوى في أن تكون سيرته ? عاملة في النفس المؤمنة عمل القلب من الجسد، ورقيبة عليها رقابة الضمير على العقل، والبصيرة على البصر، وأن تكون منمية للإيمان ومزكية للخلق ودافعة للجهاد، ومغرية للتمسك بالحق والخضوع له. والمؤرخون القدامى يعتمدون على حشد الآثار، وتمحيص الأسانيد، وتسجيل مادق من الوقائع والحوادث، أما المتأخرون فيميلون إلى التعليل والموازنة، وربط الحوادث المختلفة في سياق متماسك، وهذا النهج الجديد لم يف لمادة السيرة النبوية بحقها علينا، فشأن رسول الله ? كبير، والإبانة عن سيرته تحتاج إلى نفس أطول وذكاء أنفذ. وهذا بدوره يحتاج إلى تفاوت في دقة الراوين تبعا لتفاوت دقة المأخذ وحدة الإنتباه وضبط الحقائق العلمية والوقائع التاريخية. ومهما يكن صحيحا مايقوله الناس من ابتعاد المسلمين عن منهجهم الإسلامي العظيم في دراسة السيرة النبوية هذه السنوات الأخيرة، فإن الذي يجب الإيمان به هو أن الناشئة المسلمة اليوم تملك من الوعي الإسلامي ودقة التأمل والملاحظة ما لم يكن يملكه المسلمون في أي عهد مضى، ولن يمر زمن طويل حتى نجد أن هذا الوعي قد انقلب إلى حركة إيجابية عاملة تصلح الإنحراف، وتقوم الإعوجاج، وتعيد البناء الإسلامي من جديد. يتبين لنا من هذا أن كتابة السيرة النبوية كانت الباب العريض الذي دخل منه المسلمون إلى دراسة التاريخ وتدوينه عموما، وأن القواعد العلمية التي استعانوا بها لضبط الرواية والأخبار هي ذاتها القواعد التي أبدعتها عقول المسلمين شعورا منهم بالحاجة الماسة إلى حفظ مصادر الإسلام وينابيعه الأولى من أن يصيبها أي دخيل. ومن المعلوم أن كتابة السيرة النبوية تدخل في عموم مايسمى "تأريخا" . لأنها كانت حافزا على رصد الوقائع والأحداث التي خلت والتي جاءت متسلسلة. ولقد كان المنهج المعتمد في ذلك هو اتباع مايسمى اليوم بالمذهب الموضوعي في كتابة التاريخ طبقا لقواعد علمية، ومعنى هذا أن كتاب السيرة النبوية وعلمائها لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة ، إلا تثبيت ماهو ثابت منها بمقياس علمي، يتمثل في قواعد مصطلح علم الحديث المتعلقة بكل من المثن والسند، وفي قواعد علم الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم وأحوالهم. فإذا انتهت بهم هذه القواعد العلمية إلى أخبار ووقائع، وقفوا عندها ، ودونوها، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية وانطباعاتهم النفسية أو مألوفاتهم البيئية في شيء من تلك الوقائع . وقد كانوا يرون أن الحادثة التاريخية التي يتم الوصول إلى معرفتها ضمن طريق من هذه القواعد العلمية التي تتسم بمنتهى الدقة، حقيقة مقدسة يجب أن تنجلي أمام الأبصار والبصائر كما هي ، كما كانوا يرون أن من الخيانة التي لاتغتفر أن يضمر هذا الحدث، فبإضماره يضمر العلم. ومن أضمر علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار. لقد كانت الخطوة التاريخية إذن بالنسبة لهذه السلسلة من سيرة رسول الله ? تنحصر في نقلها إلينا محفوظة عن طريق الوقاية العلمية التي من شأنها ضبط الرواية من حيث الإسناد واتصاله ، ومن حيث الرجال وتراجمهم، ومن حيث المثن أو الحادثة، وما قد يطوف بها من شذوذ ونحوه.

 

 



بحث عن بحث