نقض شبهة استدل بها المخالفون من كلام الشيخ محمد بن عبدالوهاب

 

 

ماهر عبد الحفيظ صفصوف

الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدْعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه! وكم من ضال تائه قد هدَوه! فما أحسنَ أثرَهم على الناس! وأقبحَ أثرَ الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين(1). والصلاة والسلام على من أرسله الله تعالى بالوحي بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أقام حجة الله على الخلق بالقرآن؛ كما قال - تعالى -: ) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ) [الأنبياء: 45] وقال - تعالى -: ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) [الأنعام: 19]، فبلَّغ رسالة ربه على سَنَن من قبله من الرسل؛ ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) [النساء: 165]. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كل مائة عام من يجدِّد لها دينها)) (2). ولا ريب أن الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب هو من أعظم مجدِّدي هذه الأمة، وله الفضل بعد الله - تعالى - على هذه الأمة في قرونها الأخيرة؛ فقد أعلى الله به السُّنة، وقمع الله - تعالى - به البدعة، نشَرَ التوحيد بعد أن كادتْ تندرس أعلامه، وحارب الشرك وأهله، وكشف عوارهم، وفند شبهاتهم بأدلة الكتاب والسنة، مستمدًّا فهمَه من كلام سلف الأمة وعلمائها المحققين، فأحيا به الله - تعالى - قلوبًا ميتة في زمن غربة من الدين والعلم. يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله -: وفي أثناء القرن الثاني عشر ظهر بنجد مِن أحبار الأمة وساداتها مَن يدعو إلى توحيد الله بالعمل والعبادة، وإفراده بالقصد والإرادة، ويجدِّد ما اندرس من أصول الملَّة وقواعد الدين، ودعا إلى مذهب السلف والأئمة السابقين، في إثبات صفات الله رب العالمين، ونفى عن آيات الصفات وأحاديثها تأويل الجاهلين، وإلحاد المحرِّفين، وزيغ المبطلين. قرَّر ذلك بأدلته وقوانينه الشرعية، وحكى نصوص الأئمة وإجماع الأمة؛ بالنقل عن العدول الأثبات، الذين عليهم مدار أحكام الدين في نقل أصوله وفروعه، وأجمعت الأمة على هدايتهم ودرايتهم، حتى ظهر المذهب وانتشر، وعرَفه كثير من أهل الفقه وحذَّاق البشر، ومن له نهمة في طلب العلم والأثر، وقد كان قبل ذلك مهجورًا بين الناس، لا يعرفه منهم إلاَّ النُّزَّاع من الأكياس. وقرَّر توحيد العبادة بأدلته القرآنية، وبراهينه النبوية، ونهى عن التعلُّق على غير الله محبةً وإنابةً، وتعظيمًا وخوفًا، ورجاءً وتوكلاً، ونحو ذلك من أنواع التعلقات. وقرَّر أن هذا حق الله لا يصلح لسواه من نبي أو ملك أو صالح أو غيرهم، وبسط القول في ذلك وأطنب وعلَّل، ومثَّل وجادل وناضل، حتى ظهرت الحجَّة، واستبانت المحجَّة، فاستجاب له من أراد الله هدايته، وسبقت له السعادة، وصدّ عنه آخرون وعارضوه بشبهات ترجع إلى شبهات إخوانهم وأشباههم الذين كفروا من قبل، وعارضوا الرسل بجهلهم؛)  كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ([البقرة: 118] (3)]. ويقول أيضًا: فمحا الله بدعوته شعار الشرك ومشاهِده، وهدم بيوت الكفر والشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم مَن ظهر عليه من البوادي وسكان القرى بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد والهدى، وكفَّر من أنكر البعث واستراب فيه من أهل الجهالة والجفاء، وأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وترك المنكرات والمسكرات، ونهى عن الابتداع في الدين، وأمر بمتابعة سيد المرسلين والسلف الماضين، في الأصول والفروع من مسائل الدين، حتى ظهر دين الله واستعلن، واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحُدَّت الحدود الشرعية، وعزرت التعازير الدينيَّة، وانتصب عَلَمُ الجهاد، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهلَ الشرك والفساد، حتى سارتْ دعوته، وثبت نصحه لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وجمع الله به القلوب بعد شتاتها، وتألَّفت بعد عداوتها، وصاروا بنعمة الله إخوانًا، فأعطاهم الله بذلك من النصر والعزِّ والظهور ما لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي والصخور، وفتح عليهم الأحساء والقطيف، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، ومن اليمن إلى العراق والشام، دانت لهم عربُها وأعطوا الزكاة، فأصبحت نجد تُضْرب إليها أكباد الإبل في طلب الدين والدنيا، وتفتخر بما نالها من العزّ والنصر والإقبال والسنا، كما قال عالم صنعاء وشيخها: قِفِي وَاسْأَلِي عَنْ عَالِمٍ حَلَّ سُوحَهَا بِهِ يَهْتَدِي مَنْ ضَلَّ عَن مَنْهَجِ الرُّشْدِ مُحَمَّدٌ الهَادِي لِسُنَّةِ أَحْمَدٍ فَيَا حَبَّذَا الهَادِي وَيَا حَبَّذَا المَهْدِي لَقَدْ سَرَّنِي مَا جَاءَنِي مِنْ طَرِيقَةٍ وَكُنْتُ أَرَى هَذِي الطَّرِيقَةَ لِي وَحْدِي وقال عالم الأحساء وشيخها: لَقَدْ رَفَعَ المَوْلَى بِهِ رُتْبَةَ العُلَى بِوَقْتٍ بِهِ يَعْلُو الضَّلاَلُ وَيُرْفَعُ تَجُرُّ بِهِ نَجْدٌ ذُيُولَ افْتِخَارِهَا وَحُقَّ لَهَا بِالأَلْمَعِيِّ تَرَفُّعُ وهذا في أبيات لا نطيل بذكرها، وقد شهد غيرهما بمثل ذلك واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته(4). وليس القصد في هذا المقام التعريف بالإمام - رحمه الله - ولكن القصد في ذلك بيان أن كل منتسبٍ للسلف في عصرنا يترنم بحب الشيخ، ويفخر به، ويدينه دينًا؛ ) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( [المائدة: 55]. وقد نبتتْ في هذا العصرِ نابتةٌ تنتسب لطريقة السلف، زعمت الدفاع عن عقيدة القرون الثلاثة المباركة وعن أئمة الإسلام - رحمهم الله تعالى - ولهم للحق جهودٌ عظيمة في ذلك؛ لكنهم في نفس الآن - بقصد أو بغير قصد - حادوا عن مذهب السلف في عديد من أصولهم، وأصَّلوا وفرَّعوا، وكتبوا وناظروا، وجادلوا فيما حادوا فيه، وعلى رأس هذه المسائل مسألة الإيمان، ومسألة الكفر، وليس المقام هنا لنقاش هذه المسائل؛ وإنما القصد التنبيه على أنهم لما انحرفوا في عديد من مسائل العقيدة، نسبوا هذا الانحراف إلى المحققين من أئمة الإسلام، فتتبَّعوا متشابه الأقوال والكتابات التي عندهم، وجعلوها أصولاً بنَوا عليها معتقدهم، ورموا مخالفهم بشتى الألفاظ والأوصاف من تبديع وتضليل، ووصف بالخارجية والتكفير، وتأوَّلوا وحرَّفوا كل نص صريح من أقوال هؤلاء الأئمة، مما يستدل به مخالفوهم من أهل السنة والجماعة، فضلاً عن عدم الأمانة العلمية في نقل بعض كلام العلماء، بترًا وتحريفًا للكلم عن مواضعه(5). ولما كان الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - قدس الله روحه - من أعلام هذه الدعوة ومجدِّديها، كان لزامًا على هؤلاء نصرُ مذهبهم، بجعل كلام الإمام في صفِّهم، والزعم أنهم على منهجه ودعوته، وأن مخالفهم مخالف لدعوة الشيخ، محايد لطريقه ونهجه، فتتبعوا ما أشكَل من كلامه في أفهامهم، وعضُّوا عليه بالنواجذ، وتمسكوا بذلك كسبب من السماء، وصالوا وجالوا بطرح هذا المشكِل من كلامه في كل كتاباتهم ودروسهم، معرضين عن تفسير ما أشكل من كلامه بكلامه الآخر الواضح البيِّن في مصنفاته وفتاويه، ومعرِضين عن تفسير الأئمة والعلماء لكلامه - رحمه الله تعالى - ضاربين بأقوالهم عُرْض الحائط، وهذا ديدنُ أهل البدع الذين يتَّبعون المتشابه من الكلام، كما اتبع الذين من قبلهم من أهل الكتاب ما تشابه؛ ) فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ( [آل عمران: (7). ومما استدل به أدعياء السلفية من أقوال الإمام - رحمه الله تعالى - قولُه في رسالته للشريف: وإذا كنا لا نكفِّر مَن عبدَ الصنمَ الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبِّههم، فكيف نكفِّر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، ولم يكفّر ويقاتل؟! سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ! (6). وقد استدلوا بهذه المقولة وغيرها على أنه لا يجوز تكفير من وقع في الشرك الأكبر، ما دام جاهلاً بأن ما يقوم به شرك وكفر بالله - تعالى - وأن الشيخ - رحمه الله - لم يكفِّر عباد القبور؛ لجهلهم وعدم وجود من ينبههم. وقبل الرد على الاستدلال بهذه الشبهة من كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لا بد لزامًا من بيان قوله في هذه المسألة؛ حتى يعلم أننا لا نتقوَّل على الشيخ، وأننا لا ننسبه إلى تكفير عباد الأوثان - من قبورية وغيرها - زورًا وبهتانًا؛ بل هو قول الإمام، الذي أظهره للقاصي والداني، وقاتل لأجله حتى يكون الدين لله، وبذا شهد أيضًا أبناؤه وأحفاده وتلامذته وأئمة الدعوة النجدية المباركة. الشيخ - رحمه الله تعالى - إمام محقِّق في التوحيد، فصَّل في هذه المسألة تفصيل مَن سبقه من المحققين؛ كأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله تعالى - وغيرهم، وسبر أغوار هذه المسألة، وقضى عمره في تبيينها وتوضيحها، وبذا تشهد مصنفاته كلها.

يقسم الشيخ - رحمه الله تعالى - مسائل الدين إلى قسمين:

1- مسائل ظاهرة، والتي يعبَّر عنها بالمسائل المعلومة بالضرورة من الدين.

 2- ومسائل خفيَّة، والتي يعبَّر عنها بالمسائل غير المعلومة بالضرورة من الدين. فأما المسائل الظاهرة، فلا يَعْذُرُ فيها الإمام - رحمه الله تعالى - إلا في حالتين: الأولى: حديث العهد بالإسلام. الثانية: من نشأ ببادية بعيدة عن ديار الإسلام. ويرى الإمام - رحمه الله - أن الحُجة في المسائل الظاهرة تقوم ببلوغ القرآن، فمتى ما بلغ القرآن الناس، فقد قامت الحجة عليهم بلا ريب؛ لقول الله - تعالى -: ) وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ( [الأنعام: 19]. ولا يرى الجهلَ عذرًا في المسائل الظاهرة بوجود القرآن؛ إذ لا يسوغ الجهل بأصول الوحي الذي بُعِثَ به محمدٌ، ولأجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل. وأما المسائل الخفية، فالشيخ لا يشترط بلوغ القرآن فقط كما في المسائل الظاهرة؛ بل لا بد من تحقُّق الشروط، وإزالة الشبهات، وانتفاء الموانع، وهذا ما يعبِّر عنه هو وغيره بـ(الفهم)، فمتى ما خلا العبد من الشبهات والموانع، حكم عليه بالكفر إذا وقع فيه. فإقامة الحجة عند الشيخ في المسائل الظاهرة، تكون ببلوغ القرآن فقط، حتى وإن لم تزل الشبهات وتنتفِ الموانع، وأما إقامة الحجة في المسائل الخفية، فيشترط فيها بلوغ القرآن وفهمه. هذا ملخص قول الإمام في هذه المسألة، وإليك - أخي القارئ - بعضَ نصوص الإمام - رحمه الله - التي تبيّن لك مذهبه في المسألة: قال الشيخ رحمه الله في رسالته إلى الإخوان: بسم الله الرحمن الرحيم إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكُّون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة؟ فهذا من العجب؛ كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارًا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي كان حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصَّرْف والعَطْف، فلا يكفَّر حتى يعرَّف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغتْه الحجة. ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرِّقوا بين قيام الحجة وبين فَهْم الحجة؛ فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم؛ كما قال - تعالى)-: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( [الفرقان: 44]، وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامتْ عليهم، وفَهْمُهم إياها نوعٌ آخر، وكُفْرُهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج: ((أينما لقيتموهم فاقتلوهم)) (7)، وقوله: ((شر قتلى تحت أديم السماء)) (8)، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسانُ عملَ الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدُّدُ والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتْهم الحجة ولكن لم يفهموها. وكذلك "قتل علي - رضي الله عنه - الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار"، مع كونهم تلاميذَ الصحابة، مع مبادئهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق. وكذلك إجماع السلف على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا. إذا علمتم ذلك، فإن هذا الذي أنتم فيه كفر، الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردّة، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بيِّن، وأظهر مما تقدم الذين حرقهم عليٌّ، فإنه يشابه هذا. وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور أن يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله - تعالى - أن يزيله عنكم، والسلام(9). وقال الشيخ - رحمه الله - في رسالته إلى أحمد بن عبدالكريم: ... وأما عبارة الشيخ التي لبَّسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لَكَفَّرنا كثيرًا من المشاهير بأعيانهم؛ فإنه صرَّح فيها بأن المعيَّن لا يُكَفَّر إلا إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعين يكفَّر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر - رضي الله عنه - بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يُعْذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول الله) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ? [الأنعام: 25]، وقوله: ? إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) [الأنفال: 22] (10). وقال - رحمه الله - في نقله عن "ابن تيمية" - رحمه الله -: وقال أيضًا في أثناء كلامه على المتكلمين ومَن شاكلهم، لما ذكر عن أئمتهم شيئًا من أنواع الردة والكفر، وقال - رحمه الله -: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بُعث بها وكفَّر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، ثم تجد كثيرًا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدِّين، وكثير منهم تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرضٍ في قلبه ونفاق، والحكاية عنهم في ذلك مشهورة(11). وقال - رحمه الله تعالى - في رسالة عامة للمسلمين: فإذا عرفتَ ما قلتُ لك معرفةَ قلب، وعرفتَ الشرك بالله الذي قال الله فيه: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)الآية [النساء: 48]، وعرفتَ دين الله الذي بعث به الرسلَ من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، وعرفتَ ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا - أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله وبرحمته؛ قال الله - تعالى -: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )[يونس: 58]. وأفادك أيضًا: الخوف العظيم؛ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمةٍ يُخْرِجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يُعْذَرُ بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقرِّبه إلى الله، خصوصًا إن ألهمك الله ما قصَّ عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) [الأعراف: 138]، فحينئذٍ يعظم خوفك(12). وقال - رحمه الله -: فإذا عرفت هذا، وعرفت أن دعوتهم الصالحين وتعلُّقهم عليهم أنهم يقولون: ما نريد إلا الشفاعة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم لِيُخْلِصُوا الدعوة لله، ويكون الدين كلُّه لله، وعرفت أن هذا هو التوحيد، الذي هو أفرض من الصلاة والصوم، ويغفر الله لمن أتى به يوم القيامة، ولا يغفر لمن جهله ولو كان عابدًا، وعرفت أن ذلك هو الشرك بالله الذي لا يغفر الله لمن فعله، وهو عند الله أعظم من الزنا وقتْل النفس، مع أن صاحبه يريد به التقرب من الله.... (13). وقال - رحمه الله -: وأمَّا المسائل الأخر، وهي: أنِّي أقول: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى "لا إله إلا الله"، ومنها: أني أُعَرّف مَن يأتيني بمعناها، ومنها: أني أقول: الإله هو الذي فيه السر، ومنها: تكفير الناذر إذا أراد به التقرُّب لغير الله، وأخذ النذر كذلك، ومنها: أن الذبح للجنِّ كُفر، والذبيحة حرام ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجنِّ، فهذه خمس مسائل، كلها حق، وأنا قائلها. (14) وقال: الحمد لله رب العالمين، أما بعدُ: فما ذكره المشركون على أنِّي أنهى عن الصلاة على النبي، أو أنِّي أقول: لو أن لي أمرًا هدمتُ قبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أنِّي أتكلم في الصالحين، أو أنهى عن محبتهم، فكلُّ هذا كذب وبهتان، افتراه عليَّ الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، مثل: أولاد شمسان، وأولاد إدريس، الذين يأمرون الناس ينذرون لهم، ويَنْخُونهم ويَنْدُبونهم، وكذلك فقراء الشيطان، الذين ينتسبون إلى الشيخ عبدالقادر - رحمه الله - وهو منهم بريء كبراءة علي بن أبي طالب من الرافضة. فلما رأوني آمر الناس بما أمرهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ألا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر فهو كافر، وعبدالقادر منه بريء، وكذلك من نخا الصالحين أو الأنبياء، أو ندبهم، أو سجد لهم، أو نذر لهم، أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان يعرف أمر الله ورسوله لا ينكر هذا الأمر، بل يقرُّ به ويعرفه. وأما الذي ينكره فهو بين أمرَيْن: إن قال: إنَّ دعوة الصالحين واستغاثتهم، والنذر لهم، وصيرورة الإنسان فقيرًا لهم - أمرٌ حسن، ولو ذَكَرَ اللهُ ورسولُهُ أنه كُفْر؛ فهو مُصِرٌّ بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كُفره؛ فليس لنا معه كلام، وإنما كلامنا مع رجلٍ يُؤْمِن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحبَّ الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، لكنَّه جاهل قد لَبَّسَتْ عليه الشياطين دينه، ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق، ولو يدري أنه كفرٌ يدخل صاحبه في النار، ما فعله(15). وقال: فيا عباد الله، إذا كان الله ذكر في كتابه أن دين الكفَّار هو: الاعتقاد في الصالحين، وذكر أنهم اعتقدوا فيهم ودعوهم وندبوهم لأجل أنهم يُقربونهم إلى الله زُلفى، هل بعد هذا البيان بيان؟! فإذا كان مَن اعتقد في عيسى ابن مريم مع أنَّه نبي مِن الأنبياء، وندبه ونخاه، فقد كفر، فكيف بمن يعتقدون في الشياطين؛ كالكلب أبي حديدة، وعثمان الذي في الوادي، والكلاب الآخر في الخرج، وغيرهم في سائر البلدان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدُّون عن سبيل الله؟!(16) وقال: وأنا أنصحكم: لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين مثل الزنا والسرقة، بل هو عبادة للأصنام، مَن فعله كَفَر، وتبرأ منه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم. يا عباد الله، تفكروا وتذكروا، والسلام(17). هذه بعض النصوص من كلام هذا الإمام العلَم - رحمه الله - وليس المقصود التقصِّي لما قاله، فهو كثير، ومَن أراد فليرجع إلى "فتاوى الإمام"، يجد فيها ما يشفي، وإلى أقوال الأئمة الذين نقلوا عنه وبيَّنوا مُراده في الكثير مِنْ مُؤلفاتهم، وإنما أردتُ الإشارة إلى نصوص الإمام في المسألة؛ حتى يَتَبَيَّن للقارئ الكريم مذْهبه - رحمه الله - وأن ما سنحكمه على المشْكِل من كلامه إنما هو بالعودة والرد لنصوصه وصريح أقواله، وأنه ينبغي لكل باحثٍ أن يستقصي كلام العالم قبْل إصدار النتيجة، فإنَّ هذا مقتضى الأمانة في البحث العلمي، وحتى لا يُقوَّل العالِمُ ما لَم يَقُلْه. وبعد هذا نعود للشُّبهة التي استأنس بها البعضُ في نسبة القول بعدم تكفير عباد القبور لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عند جَهْلهم حُكم ما هم عليه، وعدم وجود مَنْ يُنَبّههم. فنقول - وبالله التوفيق -: إنَّ النصوص السابقة التي ذَكَرْنَاها - والتي لَم نَذْكُرها مما هو في كُتُب الشيخ ومُؤلفاته - تدلُّ دلالة واضحة على أن الشيخ لا يعذر مَنْ أشرك في ألوهية الله تعالى وعبادته، وذلك أنه أمرٌ جليٌّ لا يصلُح أن يحتج فيه بالجهل؛ لأنه مِنْ أوضح ما ذكر الله في كتابه، وأَوْضَح ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو أصلُ دين الله الذي دعا إليه محمد - صلوات الله وسلامه عليه - والذي يعلم الكلُّ - حتى اليهودُ والنصارى - أنه أصل دين الإسلام القائم على إفراد الله تعالى بالعبادة، لا شريك له فيها. وهذا الأمر بيِّن في كلام أئمة الدعوة النجْدية، الذين هم أعلم خلْق الله بكلام الإمام محمد بن عبد الوهاب، كيف وهم الذين تربَّوْا ونشؤوا على دعوته - رحمة الله عليه - وأوذوا لأجْلها؟! فقُتِلَ مَن قُتل، ونُفِيَ مَن نفي، فلم يزدْهم ذلك إلا إصرارًا عليها، مستمسكين معتَصِمين بها؛ ولذا فإنَّ أي كلام للشيخ أشكَلَ على البعض، فينبغي الرجوع فيه إلى أقواله الأخرى، وكلام أئمة الدعوة، الذين كما قُلنا، وكما لا يخفى على ذي عرفان: إنهم أعلم الناس بكلام الشيخ - رحمه الله. وليعلم أن الأئمة ردّوا هذا القول من الشيخ محمد إلى ما سمعوه منه وتلقّوه عنه وقرؤوه في كُتُبه, لذا فإنَّ أحدًا منهم لَم يحمل الكلام على ما فهمه المتأخرون المنتسبون للدعوة السلفيَّة، بل كان كلامهم مغايرًا تمامًا لما نسبه أولئك للشيخ في هذه المسألة. فهذا الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن - رحمه الله - يرى أن هذا القول من الشيخ مُجْمَل يَحْتاج إلى الرجوع فيه إلى أقواله الصريحة الأخرى، متَعَجِّبًا ممن أخذ بهذا القول تاركًا للأقوال الأخرى الكثيرة الصريحة؛ فيقول - رحمه الله -: "الجواب عن قوله في الجاهل العابد لقبَّة الكواز؛ لأنه لَم يستثنِ في ذلك جاهلاً، ولا غيره، وهذه طريقة القرآن: تكفير مَن أشْرك مُطْلقًا، وتوقُّفُهُ - رحمه الله - في بعضٍ يُحْمَلُ على أنه لأمر من الأمور, وأيضًا فإنه كما ترى توقَّف مرة في قوله: وأما من أخلد إلى الأرض فلا أدري ما حاله؟ فيالله العجب! كيف يُتْرَكُ قول الشيخ في جميع المواضع مع دليل الكتاب والسنة، وأقوال شيخ الإسلام وابن القيم في قوله: من بلغه القرآن فقد قامتْ عليه الحجة، ويُقْبَلُ في مواضع مع الإجمال(18)؟! وقال الشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، أبناء الشيخ عبد اللطيف من علماء الدعوة، بعد تقرير منهج الشيخ محمد في مسألة تكفير المُعَيَّن: أما قوله عن الشيخ محمد: إنه لم يكفِّر مَن كان على قبة الكواز, وإنه لا يكفِّر الوثني حتى يدعوه، وتبلغه الحجة - فيقال: نعم، فإن الشيخ لم يكفِّر الناس ابتداء إلا بعد قيام الحجة والدعوة؛ لأنهم إذ ذاك في زمن من الفترة، وعدم علمهم بآثار الرسالة، ولذا قال: لجهلهم وعدم مَن ينبههم، فأمَّا إذا قامت الحجة، فلا مانع مِن تكفيرهم، وإن لَم يفهموها(19). اتَّضح مِن كلام العلماء الجواب على هذا القول المُشتبه: 1- مجموع نصوص الشيخ محمد بن عبد الوهاب على خلاف هذا النص؛ كما ذكر الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب

. 2- إيضاح هذا النص على أنَّه يحمل لأمرٍ خاصٍّ، فسره العلماء: أن هؤلاء الذين على قبة الكواز لَمْ تبلغهم الحجة؛ لأنهم في زمن فترة, وأمَّا إذا بلغتهم الحجة فيكفرون، وإن لَم يفهموها؛ وهذا ينسجم تمامًا مع منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي أوضحنا ملامحه"(20). قلتُ: زمان الشيخ محمد بن عبد الوهاب ينطبق عليه توصيف زمن الفترة، كما سبق في كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، فقد عمَّ الشركُ الأرض كلها، كما أخبر عن ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه؛ حيث يقول: وهذا الشرك الذي أذكره اليوم قد طبق مشارق الأرض ومغاربها، إلا الغرباء المذكورين في الحديث، وقليل ما هم (21). هذا؛ وقد ذهب الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لَم يصرحْ بالتكفير ابتداءً؛ نظرًا للمصْلحة وعدم النفرة، فقال - رحمه الله تعالى - عند كلامٍ ذَكَرَهُ عن شيخ الإسلام ابن تيميَّة في عدم تكفير المعين ابتداء لسبب ذكره - رحمه الله تعالى - أوجب له التوقُّف في تكفيره قبل إقامة الحجة عليه: "... ولكن لغلبة الجهل وقلة العلْم بآثار الرسالة في كثيرٍ منَ المتأخِّرين لَم يُمكن تكْفيرهم بذلك، حتى يَتَبَيَّن لهم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يخالفه". قلتُ: فذَكَر - رحمه الله تعالى - ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم على التعيين خاصة بعد البيان والإصرار، فإنه قد صار أمَّة وحده، ولأن من العلماء من كفَّره بنهْيه لهم عن الشِّرك، فلا يمكنه أن يعاملهم إلا بمثل ما قال، كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في ابتداء دعوته، فإنه إذا سمعهم يدعون زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "الله خير مِن زيد"؛ تمرينًا لهم على نفي الشرك بلين الكلام؛ نظرًا للمصلحة وعدم النفرة، والله تعالى أعلم(22). فهذا توجيه هذا العالم الجليل لكلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أنه لم يعلن التكفير؛ لأجل عدم نفرة الناس من دعوته إن هم سمعوه يُصَرِّح بتكفير مَن أشرك بالله، لا أنه لا يرى كفر من تلبس بالشِّرْك الأكبر الجلي. وقريب مِن هذا قول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله تعالى -: فإذا كان هذا كلام الشيخ - رحمه الله - فيمَن عَبَد الصَّنَم الذي على القبور إذا لَم يَتَيَسَّر له من يعلِّمه ويبلِّغه الحجة، فكيف يطلق على الحَرَمَيْنِ: أنها بلاد كفر؟! والشيخ على منهاج نبوي وصراط مستقيم، يعطي كل مقام ما يناسبه من الإجمال والتفصيل(23). قلتُ: قوله - رحمه الله -: "يعطي كل مقام ما يناسبه من الإجمال والتفصيل", يدل على أن الشيخ يتبع الحكمة في الدعوة إلى الله، فإن وجد من الحكمة عدم التصريح بالتكفير توقف، حتى يستأنس الناس بدعوته فيُبَين حكم الله، وليس هذا بأمر مُنكر، فقد يسكت العالم عن قول؛ رجاء أن يكون بسكوته ما يحصل به خير أعظم. فكلُّ هؤلاء الأئمة متَّفقون على وُجُوب توْجيه هذا الكلام؛ لأنَّ كلام الشيخ يزخر بعكْسه من التصريح بكُفر عبَّاد القبور الذين يعدلون مع ربِّهم في العبادة، وكيف لا والشيخ - رحمه الله - صرَّح في عديد من المواضع بكفر عباد بعض القباب والمشاهد والقبور، وذكر بعضها؟! فمن ذلك: قبة أبي طالب، فقال - رحمه الله -: "... ولكن أقطع أن كفر من عبد قبة أبي طالب لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله"(24). فهذا صريح من الإمام بتكفير من عَبَد قبة أبي طالب، ولكن كفر المويس وأضرابه أعظم؛ لأنهم من دعاة الشرك، وهم في حكم الشريعة "طواغيت"، والكفار يتفاوتون في الكفر، كما لا يخفى على أحد من أهل العلم. وقال - رحمه الله - في كُفر مَن عبد قبر يوسف: هذا صريح واضح في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال، في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعد ما أقرَّ به، ودان بعبادة الأوثان بعد ما أقر بها، وليس في كلامي هذا مجازفة، بل أنت تشهد به عليهم، ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه(25). وقال كما في النقل السابق: فلما رأوني آمر الناس بما أمرهم به نبيُّهم - صلى الله عليه وسلم - ألا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر فهو كافر، وعبد القادر منه بريء، وكذلك من نخا الصالحين أو الأنبياء، أو ندبهم أو سجد لهم، أو نذر لهم، أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان يعرف أمر الله ورسوله لا ينكر هذا الأمر، بل يُقِرُّ به ويعرفه(26). وقال: فإذا كفَّرنا مَن قال: إن عبد القادر والأولياء ينفعون ويضرون، قال: كفَّرتم أهل الإسلام، وإذا كفّرنا من يدعو شمسان وتاجًا وحطابًا، قال: كفَّرتم أهل الإسلام! (27). وقال: فمَن عبد الله ليلاً ونهارًا، ثم دعا نبيًّا أو وليًّا عند قبره، فقد اتخذ إلهَيْن اثنَيْن، ولَم يشهد أن لا إله إلا الله؛ لأنَّ الإله هو المدعو، كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزُّبَيْر أو عبد القادر أو غيرهم، وكما يفعل قبل هذا عند قبر زَيْد وغيره، ومَن ذبح لله ألف أضحية، ثم ذبح لنبي أو غيره؛ فقد جعل إلهَيْن اثنَيْن؛ كما قال تعالى( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الأنعام: 162]، والنسُك هو: الذبح، وعلى هذا فقس(28). فهذه أقوال الشيخ في تكفير مَن عبَد قبْر "عبد القادر"، الذي ورد أصلاً في المقولة التي احتج بها المخالفون، فكما ترى - أخي الكريم - الشيخ يُسَوِّي في تكفير من عبد قبة عبدالقادر وغيرها، ومن المعلوم أن التفريق بين المتماثلات لا يصح؛ إذ الكلُّ ينطبق عليه وصْف مشترك من الجهل ودعاء غير الله والشرك به, فهل يصحُّ التفريق بين مَن عبد قبر يوسف والزبير وأبي طالب، وبين من عبد قبر عبد القادر أو البدوي؟! ولا بُدَّ مِنْ وقفة عند كلام الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن، حفيد الإمام محمد بن عبد الوهاب, في قوله: "فيالله العجب! كيف يترك قول الشيخ في جميع المواضع مع دليل الكتاب والسنة، وأقوال شيخ الإسلام وابن القيم في قوله: من بلغه القرآن فقد قامتْ عليه الحجة، ويقبل في مواضع مع الإجمال"؟! فما صدر هذا الكلام إلا من عالم حبْر واعٍ لِمَا يقول، فهو حفيد الشيخ، وأدرى بحقيقة منهج الشيخ ومذهبه، من أناس جاؤوا بعده بما يقرب من قرنَيْن من الزمن، وقد أنكر استدلال من أخذ بظاهر كلام الشيخ ابن عبد الوهاب دون رد إلى كلامه الصريح في كثير من المواضع من كتبه. ومِن عظيم ما يؤيِّد الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن ما قام به الإمام محمد بن عبد الوهاب نفسه في دفْعِه لشُبهة استدل بها بعض أهل زمانه من كلام لشيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في عدم تكفير عابدي القبور، فرد الشيخ محمد عليهم مشنِّعًا عليهم أخذهم بكلمة قالها ابن تيمية، وترْكهم لكثيرٍ من كلامه الذي يُصَرِّح فيه بتكفير عبَّاد القبور. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -: وابن عقيل ذكر أنهم كفار بهذا الفعل، أعني: دعوة صاحب التربة، ودسّ الرقاع، وأنتم تعلمون ذلك، وأصرح منه: كلام الشيخ(29) في قوله: ومن ذلك ما يفعله الجاهلون بمكة، يا سبحان الله! كيف تركتم صريحه في العبارة بعينها: إن هذا مَن فعله كان مرتدًّا، وإن المسلم إذا ذبح للزُّهرة والجنِّ ولغير الله، فهو مما أُهِلَّ لغير الله به، وهي أيضًا ذبيحة مرتد، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان؟! فصرح أن هذا الرجل إذا ذبح للجن مرة واحدة صار كافرًا مرتدًّا، وجميع ما يذبحه للأكل بعد ذلك لا يحل؛ لأنه ذبيحة مرتد. وصرح في مواضع من الكتاب كثيرة بكُفر مَن فعل شيئًا من الذبح والدعوة، حتى ذكر ثابت بن قرة وأبا معشر البلخي، وذكر أنهم كفَّار مرتدُّون وأمثالهم، مع كونهم من أهل التصانيف. وأصرح من الجميع كلام ابن القيم في كثير من كتبه، فلما نقلتم بعض العبارة، وتركتم بعضها، علمت أنه ليس بجهالة، ولكن الشرهة عليك(30). فتأمل - رحمك الله - إلى إنكار الإمام محمد بن عبد الوهاب على من تعلَّق بكلمة مشكِلة من كلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - مما يدل على أن الشيخ محمَّدًا لا يقبل هذا النمط من البحث، فكيف يقبله فيمن استدل بكلامه وأقواله؟! فعلى الباحث عن الحقِّ: التجرُّدُ عن أية عصبية ومذهبية ونصرة لمذهبه، ولو على حساب الدليل. نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقًّا، ويرزقنا اتِّباعه، ويرينا الباطل باطلاً، ويرزقنا اجْتنابه. هذا والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

ـــــــــــــــــــــ

 (1) مقدمة كتاب "الرد على الزنادقة والجهمية"، للإمام أحمد، ص3.

(2) أبو داود 4291، وحسنه الحافظ ابن حجر في "تخريج مشكاة المصابيح"، وصححه الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" 599

. (3) "مصباح الظلام"، ص41، 42.

 (4) "مصباح الظلام"، ص45، 46.

(5) راجع لذلك كتاب: "رفع اللائمة عن فتوى اللجنة الدائمة" وغيرها.

(6)  فتاوى ومسائل، ج2 ص6، من مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب.

 (7)  البخاري 5057.

 (8) الترمذي 3000، وحسنه الألباني.

 (9) مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، 3ج ص136، من الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبدالوهاب.

 (10)  المرجع السابق ص122.

 (11)  المرجع السابق ص123.

 (12) المرجع السابق ص86.

(13) مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ج6 ص266.

(14)  مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب" ج3 ص36 من الرسائل الشخصية؛ للإمام محمد بن عبدالوهاب.

 (15) المرجع السابق ص30.

(16)  المرجع السابق ص31، 32.

 (17)  المرجع السابق ص32.

 (18)  رسالة "تكفير المُعَيَّن" ص5, وننصح بقراءة هذه الرسالة، فقد بيَّن فيها مؤَلِّفها الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن آل الشيخ عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ورد على من ذهب إلى القول بإسلام      عباد القبور، وبين فيها أن أصل التكفير للمسلمين، وأن عبارة الشيخ أخرجت عباد القبور من مسمى الإيمان، ونقل فيها نقولاً لأهل العلم تبيّن حقيقة المسألة.

(19)  "فتاوى الأئمة النجدية" ج3 ص252.

(20) "ضوابط تكفير المعين عند شيخ الإسلام: ابن تيمية، وعلماء الدعوة الإصلاحية ص172، 173.

 (21) "مجموع مؤلَّفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب" ج3 ص91، 92 من الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبدالوهاب.

 (22) "الجامع الفريد" ص384.

 (23) "مصباح الظلام" ص84

 (24)  مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب ج3 ص16 من الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبدالوهاب.

 (25) "مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب ج3 ص119 من الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبدالوهاب.

 (26) "مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب ج3 ص30 من الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبدالوهاب.

 (27) "مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب ج3 ص52 من الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبدالوهاب.

 (28) "مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج3 ص91 من الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبدالوهاب".

(29)  يُقصد شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله.

(30) "مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب" ج3 ص16، 17 من الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبدالوهاب.

 



بحث عن بحث