وماذا بعد..؟!

الكاتب : أبو عبادة

  صحت الأمة على وقع صواريخ وقذائف الصهاينة تسقط على رؤوس أهلنا في غزة، وتسابقت القنوات الفضائية في نقل صور حية بشعة لضحايا هذا العدوان، فجثث تراكمت، وأشلاء تناثرت، وجروح فُتحت و..و..و.. صور، ومشاهد، ووقائع، تخلع القلوب وتفطرها، وتلهب المشاعر وتفجرها. وانطلقت الألوف، بل مئات الألوف بل الملايين من المسلمين إلى الشوارع غاضبة مستنكرة منددة متوعدة.. وماذا بعد..؟! انطلق المسلمون في مسيرات ومظاهرات، وانطلق غيرهم، ورفع المسلمون اللافتات، ورفع غيرهم، وضج المسلمون بالهتافات والشعارات، وضج غيرهم، وندد المسلمون واستنكروا، وندد غيرهم واستنكر.. وماذا بعد..؟!

 

  إن الصراع بين أهل الإيمان وأهل الكفر – وخاصة اليهود – مستمر إلى قبيل الساعة، ولابد أن هذا الصراع يتجلى بمعارك تتوالى، وجولات تتابع، فليس ما يحصل الآن الأول ولن يكون الأخير. قال تعالى: [ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا..] المائدة:82 وقال تعالى: [ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.. ] البقرة:120 وعن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال « لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله. إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود ».صحيح مسلم7523

 

  وهذا الصراع تحكمه قوانين، وسنن إلهية يخضع لها، ولا يمكن أن يخرج عنها، ولا يمكن أن يدار هذا الصراع إلا باتباعها، واحترامها، والتزامها بشكل كامل. ولا يجوز لأمة الإسلام – بأفرادها ومجموعها - وهي التي شرفها الله بهذا الدين المحكم المتين، أن تتعامل مع قضاياها المصيرية كما تتعامل أمم الأرض الأخرى مع قضاياها، وإلا فبم تمتاز عنها؟! ومن القضايا الهامة التي يجب أن تعيرها الأمة انتباهها، وأن يركز عليها كلّ مسلم في حركته في هذه الدنيا، وفي تعامله مع كلّ أحداثها ومجرياتها على الصعيدين الشخصي والعام قضية السنن الإلهية. إنّ السنن الإلهية هي القوانين التي تتحكم وتضبط وتنظم حركة كلّ شيء في هذا الكون، ومنها ما يتعلق بحياة البشر صعوداً ونزولاً، إعزازاً وإذلالاً، نصراً وهزيمة، قبولاً وإحباطاً، تمكيناً وخذلاناً. وهذه السنن الإلهية ماضية لا مبدل لها ولا مغيّر، وهي لا تجامل ولا تحابي أمة أو جنساً أو أحداً: [ سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً ] الأحزاب:62 [ .. فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً ] فاطر:43 [ سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً ] الفتح:23 وإنّ الأمة التي تعلم هذه السنن وتعيها حقّ الوعي، وتجعلها ناظمة الخطى لها، لهي أجدر الأمم بالتمكين والنصر، ولذلك امتنّ الله على أهل الإسلام بأن علّمهم وبيّن لهم هذه السنن: [ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ] النساء:26 وقد فقه الصحابة هذا الأمر، ورعوه حق رعايته، فنالوا النصر، والتمكين ، والرفعة، والمجد، قال ابن مسعود - رضي الله عنه-:( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم..). ولا بد من التأكيد على أنّ من تمام التدين لله - سبحانه وتعالى-، ومن مقتضيات الإقرار بالعبودية له، ومن مستلزمات توحيده – سبحانه- التوحيد الخالص، الإيمان بهذه السنن، والالتزام بها، واتباعها حقّ الاتباع. ولنعد الآن إلى الأحداث الأخيرة..وماذا بعد..؟! في عالم الطب هناك أمراض تعبّر عن نفسها بأعراض صارخة حادة شديدة، تفرض نفسها بقوة، فقد ينشغل المريض وذووه وأطباؤه في معالجة هذه الأعراض الصارخة، والتعامل معها – وهو ما يسمى بالمعالجة العرضية – وينسون في غمرة انشغالهم هذا، المرض الذي تظاهر، وسبّب هذه الأعراض، فلا يوجهون جهودهم نحو علاجه، والقضاء عليه – وهو ما يسمى بالمعالجة السببية – فماذا تكون النتيجة؟ لا يستلزم أن يكون المرء مختصاً في الطب ليدرك – وبوضوح - أنّ المعالجة العرضية قد تخفف الألم، وقد تحسّن الحالة قليلاً؛ ولكنها قطعاً لن تشفي من المرض، ولن تمنعه أن يتظاهر مرات ومرات بأعراض صارخة مفجعة، بل وقاتلة، ما لم يعالج المعالجة السببية. هل ما نشهده اليوم في غزة، وما شهدناه قبلاً في العراق، وأفغانستان، وفلسطين – وأنا أتكلم هنا على المدى القريب، وإلا فالمحن والمصائب لم تزل تتوالى على الأمة – وما شهدناه من تطاول أهل الكفر على الإسلام ومقدساته هو أمراض؟ أم أنها أعراض لمرض مستمر، لازم هذه الأمة، ولا زالت غافلة عنه، أو متغافلة، تنشغل بالمعالجة العرضية، وتهرب من المعالجة السببية أو تؤجل؟؟ عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، و تركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (أخرجه أحمد، و أبو داود، والبيهقي، وغيرهم، وهو صحيح بمجموع طرقه، انظر الصحيحة 11).

 

  وعن ثوبان - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها " فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: " بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل, ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن " فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن ؟ قال:"حبّ الدنيا وكراهية الموت " 0أخرجه أحمد، وأبو داود، وأبو نعيم، وغيرهم، وهو صحيح بمجموع طريقيه، انظر الصحيحة 958).

 

  وعن عبد الله بن عمر قال:أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: " يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن, وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون، و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا, ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم, ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا, ولم ينقضوا عهد الله، و عهد رسوله إلا سلّط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم, وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" (أخرجه الحاكم والطبراني في الأوسط، وابن ماجه، وأبو نعيم، في الحلية، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الألباني:حسن الإسناد، انظر الصحيحة 106).

 

   وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما- ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: " والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، و لتنهَونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه، فلا يستجاب لكم " (أخرجه الترمذي في سننه، وقال: حسن الإسناد، وقال الألباني: حسن لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب 231).

 

   هذه الأحاديث من كلام المصطفى - صلى الله عليه وسلم- وهو الذي لا ينطق عن الهوى [ وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى* علمه شديد القوى ] النجم:3-5 ، تشخّص المرض الذي تعاني منه الأمة، وترسم لنا طريق المعالجة السببية الشافية بإذن الله له. والخطاب في هذه النصوص هو لأفراد الأمة، فهذه المخالفات وهذه التهاونات قد ارتكبها ووقع فيها أفراد الأمة، وانتشرت وظهرت، حتى أصبحت هي الغالبة على حال الأمة. وانظروا معي أيها الإخوة في هذه العبارات: .. سلّط الله عليكم ذلاً.. .. ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم.. .. وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن.. .. إلا سلّط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم.. .. إلا جعل الله بأسهم بينهم.... ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه، فلا يستجاب لكم. إنّ الذي سلّط علينا الذلّ هو الله - سبحانه وتعالى- فأصبحنا أذلّ أمم الأرض، وإنّ الذي نزع من صدور أعدائنا المهابة منا هو الله - عز وجل- فاستنصر علينا البغاث، وإنّ الذي قذف في قلوبنا الوهن فأصبحنا كالميت، وما لجرح بميت إيلام، هو الله تبارك وتعالى، وإن الذي سلّط علينا أعداءً فأخذوا بعض ما في أيدينا هو الله، تقدست أسماؤه، وإنّ الذي جعل بأسنا بيننا فبغى بعضنا على بعض، وخذل بعضنا بعضاً، واستعدى بعضنا على بعض، هو الله الواحد القهّار، وإنّ الذي سيبعث علينا عقاباً من لدنه ومهما دعوناه لكشفه، ورفعنا الأكفّ، وأعلينا الأصوات، وأهمرنا الدموع فلن يستجيب لنا، هو الله القريب المجيب.. لماذا؟؟ إنّ الله - سبحانه وتعالى- عادل لا يظلم مثقال ذرة، وهو بالمؤمنين رحيم، فلماذا؟؟ إنها السنن أيها الإخوة، فكل ما فعله الله بنا هو لمخالفتنا سننه التي علمنا إياها، وأوحاها إلى نبيه؛ ليبلغنا إياها، وقد بلّغ - صلى الله عليه وسلم-، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ولكن.. وإذا أردنا العزة بعد الذل، والهيبة بعد المهانة، والقوة بعد الوهن، والمنعة بعد الصغار، والوحدة بعد الفرقة، والفرج بعد الكرب، والنصر بعد الهزيمة، فعلينا أن نطلبهم عند الله وحده، لا عند أهل الأرض ومجلس الأمن والدول الكبرى. علينا أن نطلبهم عند الله وحده، باتباع سننه، والخضوع لقوانينه – سبحانه- في التغيير [..إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم..] الرعد:11، لا بالمظاهرات، والخطابات، والشعارات.

 

   إنّ العلاج أيها الإخوة في الرجوع إلى ديننا، تعلماً ودراسة، علماً وعملاً، ممارسة ودعوة، تصفية وتربية، تأصيلاً ومنهجاً، عقيدة وعبادة، سلوكاً وأخلاقاً. إنّ العلاج في إصلاح حياتنا الاقتصادية، فالربا – الصريح وما يسمى منه بغير اسمه - يكاد لا ينجو منه أحد إلا من رحم ربي، وقليل ما هم، وكم من المسلمين أصبح لا يبالي بكسبه، أمن حلال أم من حرام؟ إنّ العلاج في إدراك الموازنة الدقيقة بين الحياة الدنيا والآخرة، فمن منا يمارس واقعاً ما يعتقده نظرياً؟، ومن منا من يضحي بالفانية من أجل الباقية؟ إنّ العلاج في التزام الجهاد بكل أنواعه وأقسامه، روحاً وحركة، تأصيلاً وانضباطاً. إنّ العلاج في الوفاء بعهد الله وعهد رسوله، بالالتزام الكامل والشامل بهذا الدين وأحكامه، تحليلاًً وتحريماً، أخذاً وتركاً، أمراً ونهياً، اتباعاً للسنة، واجتناباً للبدعة، [ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ] البقرة:208

 

   إنّ العلاج في إعلاء شعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بشروطها وضوابطها، بين كافة أفراد وشرائح الأمة، أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، علماءً وعامة. هذه هي المعالجة السببية التي جاءتنا في كتاب ربنا - تبارك وتعالى-، وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم-؛ لمرض الأمة الذي تظاهر، وتجلى بأعراض مؤلمة صارخة، ليس آخرها مأساتنا في غزة، فأخبروني – بالله عليكم – تحت أي بند من بنودها نضع المظاهرات، والهتافات، والشعارات، والخطابات؟؟!! لقد أثنى كثير من العلماء والدعاة على تفاعل جماهير المسلمين مع الأحداث الأخيرة، واعتبروه دليلاً على حياة هذه الأمة، وعلى جذوة الإيمان المشتعلة في صدور أفرادها، وهم محقون في هذا كلّ الحق، ولكن إذا توجهت هذه الجماهير أو وُجّهت نحو أشكال من المعالجة العرضية، فلن يغني ذلك الأمة نقيراً، وإنما ستفرغ هذه الشحنات، وبعد ذلك تعود الأمة إلى حالها، وحياتها، وسيرتها الأولى، ويبقى المرض الذي سبّب هذه الأعراض ينهش في جسدها، ويستشري في أرجائها، بل ويتفاقم، ولننتظر الهجمة القادمة من أعراضه ومضاعفاته. وأما ما يجب على الأمة بعلمائها، ودعاتها، وأفرادها، فهو استغلال هذه المشاعر الفيّاضة، والعواطف المتأجّجة، لتبصير المسلمين بمشكلاتهم، وأمراضهم، وللأخذ بأيديهم إلى المعالجة السببية لأدوائهم، ليضمنوا بإذن الله الشفاء منها. نحن بحاجة إلى العلماء، والدعاة الربانيين الذين يكاشفون الأمة بواقعها، ويعلّمونها الوحي الذي استخفظوه وائتمنوا على بيانه، ويشخّصون المرض بما علموه من السنن الإلهية، ويصفون العلاج بما أوتوا من الفقه والعلم، لا أن ينساقوا مع الجماهير في عواطفها، أو يجاملوها، أو يزيدوها.. ونحن بحاجة إلى المسلم الذي يدفعه قلبه الممزق على ما يصيب إخوانه إلى أن يسأل نفسه: وماذا بعد..؟ بحاجة إلى مسلم يأخذ وقتاً من طغيان العاطفة ليبحث ويسأل ويعلم ما الواجب عليه تجاه أمته، ونفسه، ودينه، وخالقه. بحاجة إلى مسلم يعي السنن الإلهية، ويميّز المرض من العرض، ويعقد العزم على اتّباع العلاج الربّاني؛ ليحصل الشفاء. بحاجة إلى مسلم يسأل نفسه هل أتحمّل مسؤولية فيما يحصل للأمة؟ هل أنا سبب في هذا الذلّ الذي نرزح تحت نيره؟ بحاجة إلى مسلم يوجّه هذه النار المشتعلة في صدره نحو إصلاح علاقته مع ربه، ونحو تعميق التزامه بتعاليم دينه، ونحو اتّباع نبيه - صلى الله عليه وسلم- والحذر من مخالفته، ونحو بثّ هذا الفهم بين أهله ومعارفه. [ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا..] سبأ:46،  بحاجة إلى مسلم يبادر ويسارع من فوره إلى العمل على سبيل الإصلاح والشفاء، ويلقي عن نفسه بعيداً التعلات، والتسويفات. قد يقول قائل: إنك تدعو إلى التخاذل، والتكاسل، وتؤثر السلامة، والراحة، فأقول: والذي بعث محمداً بالحق لتغيير منكر ركنت إليه النفس، وهجر بدعة اعتاد عليها المرء، والتزام تكليف صدّ عنه الهوى، أصعب ألف مرة من الخروج إلى الطرقات، وبحّ الحناجر بالهتافات، ودفع بعض الدريهمات. وقد يقول آخر: وما العمل تجاه من يقتل، ويشرد، ويجوّع الآن؟ أنتركهم للعدو يفتك بهم، ونتفرغ لما تقول؟ فأقول: إن مسلمين يُهاجَمون الآن من كافرين، فلهم علينا حقّ النصرة بكلّ أشكاله الممكنة والمتاحة، مادياً ومعنوياً، وعلى جميع المستويات، ولكن بما يحقّق لهم فائدة ملموسة، تعينهم على ما هم فيه، لا بمزايدات من قبل إنشاء معسكرات لتدريب ألف من المتطوعين!، أو بمطالبات غير واقعية بفتح الحدود للمجاهدين! ولم يقل أحد بأن ندع المعالجة العرضية تفرّغاً للمعالجة السببية، ولكن الخطأ القاتل في أن نترك المعالجة السببية، مكتفين بالعرضية، ونخدع أنفسنا بأن قد أدّينا ما علينا. وقد يقول ثالث: إنك تخذّل عن الدعاء. فأقول: لطالما تكلّم علماء الأمة في شروط استجابة الدعاء المستنبطة من نصوص الوحيين، ولم يتهمهم أحد بالتخاذل عن الدعاء، وإنما حمدت لهم الأمة حرصهم على تعليمهم وتحذيرهم ليُستجاب دعاؤهم، وتُقضى حوائجهم، وإذا جاءنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم- شرط لاستجابة الله دعاءنا لكشف البلاء، أفيكون التركيز عليه وتعليمه للناس تخذيلاً وصرفاً لهم عن الدعاء؟ هذا بهتان عظيم. وقد يقول رابع: إن ما تقوله من العلاج السببي يأخذ أوقاتاً طويلة، ويحتاج لسنين عديدة، فهل ينتظرنا أعداؤنا؟! فأقول: إنّ استعجال النتيجة آفة أصابت طائفة من الأمة، فألجأتها إلى التخفّف من الالتزام بالمنهج الربانيّ للحل والمعالجة، فقفزت فوق مراحل، واختصرت أخرى، وقد أثبت الواقع فشلها. وقد حذّرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من مغبة الاستعجال، فعن خبّاب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له فى ظل الكعبة ، قلنا له ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا قال: « كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له فى الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ، ما دون لحمه من عظم أو عصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون » . صحيح البخارى3612

 

  وعن ابن عباس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « عرضت على الأمم ، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط ، والنبي ليس معه أحد... » . صحيح البخارى5705

 

  وإننا أيها الإخوة أمام امتحان لإيماننا، فإن كنا حقاً نؤمن بالله رباً وإلهاً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً، موحاً إليه من ربه، لا ينطق عن الهوى، وبالقرآن وحياً منزلاً من الله على نبيه، فليس أمامنا إلا التصديق بهذه النصوص من الوحيين التي تنبئنا عن سنن الله التي تحكم حال هذه الأمة، وعن السبيل الوحيد الموصل للنصر والظفر، وإن كنا نعتقد أنّ النصر من عند الله وحده [.. وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ] آل عمران:126 [.. وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ] الأنفال:10 [ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ] آل عمران:160 ، وليس من أي جهة أرضية كائناً من كانت، فليس لنا إلا الانصياع الكامل والالتزام التام بما علمنا – سبحانه- من السنن سبباً ونتيجة وعلاجاً. [.. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ] الحج:40 [ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ] محمد:7 .

 

   وإن لم يكن اتباع السنن الإلهية في الحل مهما طال الطريق، وبعدت الشقة من نصر الله فماذا يكون؟! وإن نصر الله – حينما يضع المسلمون أنفسهم في موضع الأهلية لتقبله، ويعلم الله منهم صدق نواياهم وجدّية عزمهم – لقريب، [ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب ] البقرة:214 ، وعن أبى هريرة - رضي الله عنه – قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - « يقول الله تعالى أنا عند ظنّ عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرّب إلى بشبر تقرّبت إليه ذراعا ، وإن تقرّب إلى ذراعا تقرّبت إليه باعا ، وإن أتاني يمشى أتيته هرولة » . متفق عليه.

 

   وماذا بعد..؟! أتسمح لي الأحداث الملتهبة، والعواطف المشتعلة، والجموع الغاضبة، بمثل هذه المقاربة؟. أيحقّ لي وأنا أشاهد القتلى، والجرحى، واليتامى، والثكالى، والأسارى، والمشرّدين، والمجوّعين، والمقهورين، من أمتي أن أخطّ هذه السطور؟. والذي نفسي بيده لو لم أكن معتقداً بكلّ ذرة من كياني أنّ المعالجة العرضية لن تفيدنا بشيء، وأنّ المعالجة السببية - وإن بدت باردة- صعبة طويلة هي الحل – بعد توفيق الله عز وجل – لما كتبت حرفاً واحداً، وإنّ الموقف يتطلّب، بل يلزم كل غيور على هذه الأمة - على أعراضها ودمائها - أن يبذل نصحه – على قدر حاله – لما سبحت ضد التيار، ولخرجت مع الجموع الخارجة، ولكن أتبرأ الذمة بذلك؟

 

  وماذا بعد..؟! [.. وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ] هود:88

 [ فستذكرون ما أقول لكم وأفوّض أمري إلى الله إنّ الله بصير بالعباد ] غافر:44

 

 

 

                           

                              الجمعة13 /1/1430هـ9 /1/2009م.

 

 

 



بحث عن بحث