غلاء الأسعار... أسبابه وعلاجه

 

كان الحديث في مجتمعنا خلال العقود الماضية عن الغلاء في جانب واحد فقط هو المهور، لكن مشكلة الغلاء توسعت في كل شيء، وعمت بلاد العرب من اليمن إلى مصر والمغرب، ومروراً بالسعودية والكويت، حتى إنها وصفت بالتسونامي، ففي اليمن ومصر والمغرب مظاهرات تحتج على الغلاء، وفي الكويت دراسة ترصد ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 339 في المئة والقنوات التلفزيونية تناقش الموضوع، حتى ان برنامج الاتجاه المُعاكس في قناة الجزيرة خصص حلقة بعنوان «الغلاء الفاحش في الدول العربية».
وهذا الغلاء الذي بدأ قبل أكثر من سنة في أسعار مواد البناء والأدوية والإيجارات، امتد الآن ليشمل المواد الغذائية وخدمات التعليم والصحة، فضلاً عن الخدمات المهنية، لكنه ما زال مستمراً ويضرب في كل اتجاه بلا هوادة.
وللمرة الأولى تصل نسبة التضخم المعلنة في المملكة العربية السعودية إلى 4 في المئة.
والدراسة التي قامت بها شركة بيت دوت كوم وشركة يوغوف سراج أظهرت أن كلفة المعيشة ارتفعت في دول الخليج بنسبة 24 في المئة في الـ 12 شهراً الماضية.
والمشكلة ما زالت مستمرة ومتزايدة، والأوضاع على أرض الواقع مهيأة لمزيد من الارتفاع بمعدلات أعلى من المعتاد.
وقد نُشر في صحيفة الاقتصادية (
الأحد 10 شوال 1428هـ) أن سوق المواد الغذائية والاستهلاكية في السعودية ستشهد قريباً زيادة عالية تفوق نسبة 20 في المئة قياساً بحجم الأسعار السائدة حالياً)، وليس في مقدور الدولة عمل الكثير حيال هذه الظروف، حيث ينجم الارتفاع عن مستجدات خارجة عن سيطرتها غالباً.
إن غلاء الأسعار - الذي يأتي بعد الانهيار في سوق الأسهم - له نتائج ظاهرة من خلال عجز الناس عن توفير حاجاتهم الأساسية والقدرة على شرائها، وله نتائج غير مباشرة من تحول نسبة كبيرة من الطبقة متوسطة الدخل إلى قسم الطبقة الفقيرة وسعي بعض الناس للحصول على المال بطرق غير شرعية كالسرقة والرشوة.
وللشاعر (حافظ ابراهيم) أبيات يقول فيها:
أيها المصلحون ضاق بنا العيش/ ولم تحسنوا عليه القياما/ وغدا القوت كالياقوت حتى نوى الفقير الصياما!
إن معالجة المشكلة تحمي من التدهور، الذي قد يقترب بنا من حالات تاريخية نتعجب حين نقرأ عنها من مثل ما رواه المقريزي في وصف حال زمانه زمن الدولة المستنصرية العبيدية في مصر في منتصف القرن الخامس الهجري، حيث قال: «وأُكلت الكلاب والقطط حتى قلت الكلاب، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضاً. وتحرز الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم سلب وحبال في كلاليب.
فإذا مرّ بهم أحد ألقوها عليه، ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه، ثم آل الأمر إلى أن باع المستنصر كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح وغيره.
وصار يجلس على الحصير. وتعطلت دواوينه، وذهب وقاره. (…) وجاءه الوزير يوماً على بغلته، فأكلها الناس، فشنق طائفة منهم فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم». فما أسباب هذه المشكلة وما علاجها؟
أسباب غلاء الأسعار
الغالب في المشكلات الكبيرة أنها لا ترجع إلى سبب واحد بل إلى أسباب عدة ولكل سبب نسبة معينة في حدوث تلك المشكلة، وتحديد هذه الأسباب بدقة هو نصف حل هذه المشكلة، لذا فأسباب مشكلة الغلاء تتلخص في ما يأتي:
-
ارتفاع أسعار المواد المستوردة.
-
الاعتماد على المنتجات المستوردة.
-
جموح الأسعار في بورصات السلع العالمية
-
الأحوال المناخية وتأثيرها في المنتجات الزراعية من حيث تدميرها أو تقليل إنتاجها.
-
زيادة عدد السكان في العالم والبلاد العربية أيضاً، وما ترتب عليها من زيادة الاستهلاك والطلب على الخدمات الأساسية.
-
التضخم وهو الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، أو الانخفاض المستمر في قيمة النقود.
-
ارتفاع أسعار النفط رفع كلفة النقل والشحن، نظراً لارتفاع أسعار المحروقات. ولأن الزيادة الملحوظة في أسعار النفط، ستؤدي إلى زيادة ملحوظة في أسعار كل السلع والخدمات التي نستوردها من الدول الصناعية.
-
تدهور سعر صرف الدولار المستمر تجاه العملات الرئيسية، إذ انخفضت قيمته إلى مستوى قياسي بلغ 1.44 دولار في مقابل اليورو، ما أدى إلى انخفاض الريال نحواً من 30 في المئة من قيمته الحقيقية.
-
غياب الرقابة الرسمية بل وتشجيع وزارة التجارة لتلك الزيادات عبر تبريرها للغلاء بمبررات خارجية فقط ومطالبتها للناس بالتأقلم مع الغلاء.
-
ممارسة بعض التجار للاحتكار: عن معمر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من احتكر فهو خاطئ» رواه مسلم. فالاحتكار حرام، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحتكر خاطئاً، أي آثم.
-
كثرة الطلب على السلع وتهافت الناس على الشراء بأي سعر كان، نتيجة لتعودهم على أنماط استهلاكية معينة أشاعها النظام الرأسمالي، لاسيما في مرحلته الأخيرة المسماة بالعولمة.
-
الذنوب والمعاصي كما قال الله عز وجل
(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) الشُّورى:30
-
ولوغ كثير من الناس في المعاملات المحرمة وعلى رأسها الربا عبر الأسهم الربوية وغيرها.
-
عدم إخراج الزكاة.

حلول غلاء الأسعار

- تنسيق وزارة التجارة مع بقية الوزارات خصوصاً وزارة المال في وضع سياسة للحد من التضخم الذي يعد أساس المشكلة الحالية.
-
تدخل مجلس الشورى عبر تشخيص المشكلة ووضع الحلول.
مراقبة الأسواق والأسعار والتجار ومحاسبتهم على الزيادات وتفعيل هيئة حماية المستهلك ونشر الوعي الاستهلاكي.
تصحيح مفهوم الحرية الاقتصادية ومفهوم اقتصاد السوق، فالحرية الاقتصادية لا تعني أن التاجر حر في ممارسة الاحتكار ووضع الأسعار التي يريد.
التسعير: وذهب المالكية إلى جواز التسعير في الأقوات مع الغلاء وأجازه الحنفية أيضاً: «إذا تعلق به رفع ضرر العامة، وقد بيّن ابن القيم حقيقة التسعير، فقال: إنه إلزام بالعدل ومنع عن الظلم، وهو يشمل تسعير السلع والأعمال، مع جواز التسعير، بل وجوبه في بعض الأحيان، متفق في هذا مع شيخه ابن تيمية رحمه الله.
-
تعزيز الإنتاج المحلي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
-
تطوير الأنظمة الاقتصادية والتجارية لتواكب حجم الطلب المتزايد.
-
دعم الحكومة للسلع، ولاسيما الرئيسية وتخفيف الجمارك.
-
خفض رسوم الخدمات المؤثرة في قدرة الطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
-
إعادة فتح فرص التوظيف الحكومي بنسب تجاري الحاجة لتوسيع الخدمات الحكومية اللازمة لمواجهة زيادة السكان.
-
تطبيق فكرة الشراء الجماعي للسلع الاستهلاكية، وتوحيد أسعارها ما بين دول مجلس التعاون الخليجي وما بين التجار في الدولة الواحدة.
-
إلغاء الاحتكار في استيراد السلع وتشجيع المنافسة.
-
رفع سعر صرف الريال، والبدء في تنويع احتياطياتنا بعيداً عن الدولار المتراجع.
-
إعداد موازنة شخصية للموارد والمصروفات وتسجيلها مكتوبة على مستوى الأفراد والأسر، والاستفادة من الدورات التدريبية في هذا المجال.
-
زيادة نطاق وشمول صرف إعانات العوائل الفقيرة، سواء نقدياً أو عينياً.
-
الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة والتخلي عن النمط الاستهلاكي المتأثر بالدعايات التجارية، يقول الله جل وعز: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء: 29]. وقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاؤوا إليه وقالوا:
نشتكي إليك غلاء اللحم فسعّره لنا، فقال: أرخصوه أنتم؟
فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟ فقالوا: وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ فقال قولته الرائعة: اتركوه لهم.
بل إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يطرح بين أيدينا نظرية أخرى في مكافحة الغلاء، وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس، قال: غلا علينا الزبيب بمكة، فكتبنا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوافراً في الحجاز وأسعاره رخيصة، فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص. وإن لم يرخص فالتمر خير بديل.
والقاصي والداني يعرف ما حصل لبعض البضائع الدنماركية عندما قاطعها الناس واستبدلوها بسلع أخرى كيف تهاوت أسعارها بشكل كبير حتى وصلت إلى النصف تقريباً.
ولذا قام بعض الناشطين السعوديين على الإنترنت بإنشاء موقع www.mqataa.com الذي يهتم بحصر أسماء المنتجات والشركات والمحال التجارية التي تقوم برفع أسعارها ليتم مقاطعتها وإيجاد البدائل المناسبة لها وكذا فعل مصريون وإماراتيون.
-
استبدال ثقافة الاستهلاك بثقافة الادخار، فالمتوسط العالمي للادخار يبلغ 21 في المئة، ويرتفع إلى 39 في المئة في بلدان شرق آسيا، فيما يبلغ المعدل ذروته في الصين مسجلاً 47 في المئة، فإن المعدل لا يتعدى في الدول العربية الغنية بالنفط 18 في المئة، على رغم تمتعها بمستوى دخل جيد، وينخفض المعدل ليسجل 17 في المئة في مصر.
-
التوبة والرجوع إلى الله (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ). الأنعام:43
-
الاستغفار
(فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يُرسل السماء عليكم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) سورة نوح 12
-
إخراج الزكاة والصدقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال» رواه مسلم أي: إن نقصت الصدقة المال عددياً فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل، بل يخلف الله بدلها ويبارك له في ماله ووجد الكثير من الناس أثراً عجيباً للصدقة في بركة المال وزيادته.
-
صلة الرحم، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يبسط له في رزقه فليصل رحمه» رواه أبو داود.
-
العناية بطلب البركة في المال قبل العناية بالكثرة، قال الله تعالى:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ). الأعراف:96، والتقوى والدعاء بطلب البركة سبب لحصولها، وكذا الإكثار من قراءة سورة البقرة، وقال صلى الله عليه وسلم عنها: «اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة» رواه مسلم.

 

إبراهيم بن عبد الله التركي    

المشرف العام على موقع المختصر



بحث عن بحث