الوقفة التاسعة: مكانة المسجد الحرام

 

تحدثنا في وقفة سابقة عن آداب الحج في الحج, وكيف يقضي وقته في تلك الأيام والليالي الفاضلة التي جعلها الله سبحانه وتعالى فرصة عظيمة لعباده ليتزودوا من الخير والتقوى, وليزيدوا من رصيد حسناتهم, ويرفعوا من درجاتهم, وليكفروا خطاياهم, ويمحوا ذنوبهم, ولكي يعودوا من حجهم وقد خرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم, مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)(1), وفي هذا الدرس نكمل ما يتعلق بتلك الآداب الواجبة, والتي يجب أن يفقهها كل مسلم ومن ذلكم معرفة أحكام المسجد الحرام, والبلد الحرام الذي خصه الله سبحانه وتعالى بها من الاحترام والتقدير, والهيبة والذلة, والخشوع والخضوع, والتعظيم والتكريم, ولذا فقد سمى الله تعالى مكة المكرمة البلد الأمين, فقال سبحانه وتعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (2), إشارة إلى أنه مكان آمن, ومن دخله يجب أن يكون آمنا, وأن من عكر صفو الآمنين يعتبر آثما, ويقول جل وعلا: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) (3).

وقال جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) (4), وقال أيضاً: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) (5).

ومن هنا ينبغي لكل مسلم عدة أمور تجاه البيت الحرام ومنها:

1-  أن يحترم هذا البلد الآمن, وأن يقدر نعمة الله عليه بجعله بلداً آمنا يأتيه رزقه من كل مكان, ونتيجة لعظم هذا المكان رتب الله سبحانه وتعالى لمن أفسد فيه, أو عرض حياة الآمنين فيه للخوف والفزع, أو ألحد فيه بأي نوع من الإلحاد سواء كان في العقيدة أو العبادة أو السلوك أو الأخلاق أو الغش والتحايل في المعاملة, أو التساهل في أداء الواجبات أو التعرض للآخرين بالأذى الحسي والمعنوي وغير ذلك, إن من يفعل هذا يعرض نفسه لعذاب الله ومقته, يقول الباري سبحانه وتعالى: ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) (6), وقد أخبر سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن من يتعرض لهذا الحرم الآمن بأي شيء بأنه ينال عقوبته في الدنيا قبل الآخرة, وعذاب الآخرة أشد وأنكى, ويكفي في هذا ما قصه الله جل وعلا من قصة أصحاب الفيل عندما جاءوا بجيش جرار بقيادة أبرهة الأشرم محاولين هدم بيته العتيق فرد الله كيدهم وأرسل عليهم أسراباً من الطير ترميهم بحجارة من سجيل فأصابت مقاتلهم فنكصوا على أعقابهم يتساقطون بكل طريق, ويهلكون بكل مهلك وأصيب قائدهم أبرهة فجعل جسمه يتناثر ويتساقط عضواًَ عضواً حتى انصدع صدره فمات بعد وصوله إلى بلده ليراه من خلفه, يقول تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) (7).

هذا جزاء من يعتدي على البيت الحرام أو يؤذي أهله, أو يتعرض للحجاج والمعتمرين بأي أذى.

2- أن الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه, وفي الصحيح من حديث أبي هريرة، والزبير، وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام, وصلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في مسجدي هذا) (8), وروى أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام, وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه) (9).

3- ومن الأحكام الخاصة أيضاً أنه يستحب ألا يدخله أحد إلا بإحرام ولو كان لا يريد حجاً أو عمرة, أما إن كان يريد الحج والعمرة فعليه أن يحرم لقوله صلوات الله وسلامه عليه في بيانه لأحكام المواقيت: (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج و العمرة) (10).

4- ومنها أيضاً أنه مكان حرام يحرم قطع شجره وحش حشيشه وصيد صيده ولا تحل لقطته, وتغلظ الدية فيه, والذنب فيه أغلظ وأشد من غيره, ويحرم دخول غير المسلمين فيه, ودفن المشرك فيه فكل هذه الأحكام تدل على التعظيم والتكريم, والهيبة والجلال.

5- كما أنه من آدابه أنه يحرم استقباله ببول أو غائط.

6- كما أنه لا يجوز أن يذبح الهدي إلا في محيط الحرم وغير ذلك من الأحكام والآداب التي فصلها الفقهاء رحمهم الله في مظانها, فعلى المسلم أن يفقهها ويتعلمها ويعمل بها.

7- ومما ينبغي للحاج والمعتمر أن يعلمه أيضاً أن الأجر والثواب يضاعف في هذا المكان الطاهر المبارك في أي باب من أبواب الخير فالصلاة تضاعف كما سبق أن على الحاج استغلال الوقت بما يفيد من قراءة القرآن والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الضال وتعليم الجاهل, والبر والإحسان والكلمة الطيبة والصدمة وغيرها, كل ذلك يضاعف أضعافاً مضاعفة إذا ما صحبته النية الصالحة والتوجه الخالص.

فما على المسلم إلا أن يزداد من هذه الأعمال ويحرص عليها ويجتهد في تحصيلها لتحصل له تلك المضاعفات 


 


(1) سبق تخريجه.

(2) التين: 1-2-3.

(3) العنكبوت:67.

(4) إبراهيم:35.

(5) البقرة:126.

(6) الحج:25.

(7) الفيل:1-2-3-4-5.

(8) أخرجه البخاري( 1: 76 رقم 1190) كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد، ومسلم (2: 1013 رقم 1395) و كتاب الحج، باب فضل الصلاة في مسجد مكة.

(9) أخرجه ابن ماجة(2: 412 رقم 1406) وأحمد( 3/343  رقم 14735) و 397 رقم 15306).

(10) أخرجه البخاري مع الفتح( 3: 384 رقم 1524 و 1529, 1530 ) كتاب الحج, باب مهل أهل مكة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما, وأخرجه مسلم (2: 838 رقم 1181 ) كتاب الحج, باب مواقيت الحج والعمرة.

 

 



بحث عن بحث