بين (الصيام  وَ  صيام)
أحمد بن نجيب السويلم

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. أما بعد :

فإن كلمة (صيام) في اللغة نكرة تدل على مطلق ما تدل عليه، وحينما نكشف عنها في معاجم اللغة نجدها تدور على معنى الإمساك والسكون ونحوه. قال ابن فارس : "الصاد والواو والميم أصلٌ يدلُّ على إِمساكٍ وركودٍ في مكان. من ذلك صَوم الصَّائم، هو إمساكُهُ عن مَطعَمه ومَشربه وسائرِ ما مُنِعَهُ. ويكون الإمساك عن الكلام صوماً، قالوا في قوله تعالى: )إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحمنِ صَوْماً(، إنَّه الإمساكُ عن الكلامِ والصَّمتُ. وأمَّا الرُّكود فيقال للقائم صائم، ... والصَّوم : رُكود الرِّيح. والصَّوم: استواء الشَّمس انتصافَ النَّهار، كأنَّها ركدت عند تدويمها. وكذا يقال صامَ النَّهارُ. قال امرؤ القيس:

فدعْها وسلِّ الهَمَّ عنك بجَسْرَةٍ ... ذَمولٍ إذا صام النهارُ وهَجَّرا"(1)

وإذا عرجنا على كلام الفقهاء فسنجدهم يطلقون (الصيام) ويريدون به معنى مخصوصا معهودا فيقولون في تعريفه: (إمساك بنية عن أشياء مخصوصة في زمن معين من شخص مخصوص)، ويريدون به الصيام الذي يجزئ ويسقط به الفرض، فإذا أطلق (الصيام) عندهم ف(ال) فيه للعهد الذهني أي الصيام الصحيح المجزئ، وهو أخص من إطلاق اللغة .

وبنظرة بصيرة في كلام أهل الآداب والسلوك نرى أنهم يكشفون الغطاء عن معان وأسرار أخرى في (الصيام) يجعلونها جزءًا من حقيقته، فهم يريدون معنى  أخص من الأولين ، فنجد من يعرفه منهم بأنه: (اعتقاد الصوم إيجاباً للّه تعالى عليه وقربة منه إليه، وإخلاصاً به له، وسقوط فرض عنه)، وهذا الإمام ابن القيم رحمه الله في وابله الصيب يقول:  (والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفُحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرّفَث، فإن تكلّم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه نافعاً صالحاً، وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها مَن جالّس حامل المسك، كذلك مَن جالَس الصائم انتفع بمجالسته وأمِن من الزور والكذب والفجور والظلم . هذا هو الصوم المشروع، لا مجرد إمساك عن الطعام والشراب) اهـ، فبالتأمل في كلامهم ندرك أن (ال) في (الصيام) عندهم لعهد ذهني آخر، إذا أطلق انصرف إلى الصيام الحقيقي الذي يوافق مايحب الله ويرضاه، فهو صيام فوق صيام .

وفي تطبيق هذا على الصائمين في شهر رمضان نجد تفاوتًا بينهم في تحقيق هذا المعنى الجلل، فهم يشتركون في الصيام اللغوي وهو الإمساك، ذلك أن صيام من فرط في عبادة الله سبحانه وغفل عن مقصود (الصيام) بل ودنس جوارحه بارتكاب ما يسخط الله سبحانه صيام،  و صيام من اتقى الله وأخلص في عبادته سبحانه وشمر عن ساعد الجد فيها وأمسك عن كل ما يفسد عمله هو صيام أيضًا، لكنه (الصيام) الذي على مراد الله تعالى، وشتان بين (صيام) و (الصيام)!

لقد توافرت نصوص الشريعة في الحث على تحقيق معنى الصيام الحقيقي والمراد منه، فالله عز وجل في تشريعه لهذه الفريضة العظيمة أرشدنا إلى أن المقصود منه هو أن يزكي العبد نفسه بصيامه ؛ قال ربنا سبحانه ) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( تتقون بفعل ما أمرتم به وترك ما نهيتم عنه جميعًا على وجه أحسن وأولى ممن كتب عليه قبلكم .

ومما ينبه على أن حقيقة الصوم هو ذلك المعنى المخصوص ما أخرجه البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده والنسائي في سننه كلهم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ".

إن المطلوب من العبد أن يحقق معنى الإمساك الشرعي الذي يوافق مراد الله تعالى  ويكون من أجله سبحانه، والذي يضمن له المنزلة العظيمة والأجور الجسيمة التي امتن الله بها على عباده في شهر رمضان واختص جزاءها لنفسه،  ففي البخاري ومسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي ..) الحديثَ .  وكما يصوم بطنه عن الأكل والشرب، يجب عليه أن يكون فؤاده فسمعه وبصره وجوارحه كلها صائمة إيمانًا و احتسابًا عن ارتكاب ما يسخط الله سبحانه، لينال بذلك مغفرة الذنوب ؛ ففي البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

أَهلُ الخُصُوصِ مِن الصُّوَّامِ صَومُهمُ        صَونُ اللِّسَانِ عَن البُهتَانِ والكَذِبِ

إن الغبن كل الغبن لمن يدخل عليهم شهر رمضان الذي تزين فيه الجنان وتغلق فيه أبواب النيران فلا يصومون إلا كصوم البهائم، يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، ولا يتعرضون لنفحات الله سبحانه، يتقلبون في نعم الله تعالى ويعصونه بنعمه ، يلطخ أحدهم صومه بالغيبة والنظر الحرام والخلق السيء، ويضيع وقته بالصفق في الأسواق، فلا صيامه إيمانًا ولا احتسابًا ولكن عادة وتقليدًا لا يجني منه سوى التعب والنصب، أخرج الإمام أحمد في الزهد والدارمي في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر "، والموفق من وفقه الله للسعي لرضوانه ليفوز بجنانه، وإنه ليسير على من يسره الله عليه .

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 


 


(1)     معجم مقاييس اللغة لابن فارس .

 



بحث عن بحث