وسطية الإسلام في الأخلاق وفي الاستمتاع بالزينة

معالي الشيخ صالح بن حميد .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، أما بعد:

والوسطية في الأخلاق:

دين الله وسط بين الغالي الذي جعل الإنسان مثالياً، فأراده في هذه الدنيا مَلَكاً مُبَرَّئاً من كل عيب، سليماً من كل نقص، فطَلَبَ من معالي القيم والآداب ما لم يمكن أن يبلغه إلا بالعصمة لو كان معصوماً، وبين الجفاة الذين جعلوه حيواناً بهيمياً، فلم يعيبوا عليه أن ينحط في السلوك إلى أسفل الدركات، و-مع الأسف- أن عصرنا الحاضر شاهد على هذا الانحطاط البهيمي في الشهوات.

إذاً مسلك الإسلام في الأخلاق وسط بين المثالية والواقعية، بمعنى أنه لا شك أن الإسلام وضع لنا نماذج مثالية أَحَبَّ منا أن نرقى إليها، لكنه لم ينكر واقعيتنا وضعفنا كبشر، قال الله عزَّ وجلَّ: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الأنفال:66] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28] بل حتى في الجهاد فرض علينا في أول التشريع أن يقف المسلم مقابل عشرة من الكفار، ثم خفف فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفَاً [الأنفال:66].

فالإسلام وسط بين المثالية النموذج المحلق، وبين الواقعية، مثلاً: في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل:90] عدل وإحسان، فالعدل الذي هو إعطاء حق وأخذ حق، كل واحد يطيقه والإحسان فضل، فالإحسان هو الذي تتنافس فيه النفوس الكريمة، و-أيضاً- في قوله تعالى مثلاً: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] لكنه قال في مقام آخر: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126] إذاً فََمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [البقرة:194] واقعية وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ [النحل:126] مثالية.

إذاً ديننا ذو وسطية في منهج الصدق والأخلاقيات، لا يريدنا أن نكون -فعلاً- كما يقول النصارى: من ضربك على خدك الأيمن فأعطه خدك الأيسر، لا. هذا خنوع، إنما الغاية التي لا تنقص عنها أن تعطي حقاً وتأخذ حقاً. والشرف يكون في الإحسان، أما الممنوع فهو الظلم والتعدي، ولهذا حتى في الحرب قال الله عزَّ وجلَّ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190] حتى في الحرب، وهي مقاتلة في سبيل نصرة الحق، لكن لا تعتدي، فلا تمثيل، ولا قطع آذان، ولا أنوف.

فالإسلام وسط يعترف بواقعية البشر كبشر، فهو يعطي حقاً ويأخذ حقاً، ويرفعه إلى السمو في المثالية.

 

وسطية الإسلام في الاستمتاع بالزينة:

وقضية الاستمتاع بالزينة، وهي وسطية ظاهرة في الإسلام، فقد أباح الله عزَّ وجلّ لنا الزينة، بل امتن علينا بإباحة الزينة: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:5-8].

إذاً هذا مسلك في الإسلام وسط، لَمْ ينكِر، ولم يمنعنا مما وضعه فينا من طبع حب زينة، وحب استمتاع وتمتع، فلم يجعلنا كالذين شددوا على أنفسهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فهؤلاء بقاياهم في الصوامع } أو كما في بعض العبادات الوثنية كما عند بعض الهندوكية والروحانيات المغرقة، لا هذه، ولا هذه.

فالزينة مباح لنا أن نستمتع بها، وتأملوا قول الله عزَّ وجلَّ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ [النحل:5-6] الثلاث الأولى أساسيات في وظيفة الأنعام لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ [النحل:5-6] فجعل هذا مما امتن الله عزَّ وجلَّ به علينا.

ولو تتأملون المعنى -يا إخواني- أعني إدراك الجمال في الأنعام، والأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم، وقد يكون غيرها من الحيوانات حسب الأقاليم، وليس كل أحد يدرك جمال الأنعام، إلا بعض الهواة، فأنت ربما لا تشاهد غنماً ولا تفكر فيها، ولا تشاهد بقراً؛ لكن بعض الناس مفتون بالغنم، ومفتون حتى بالإبل، فبعض الناس يشتري الإبل بمئات الآلاف، إذاً لا شك أن الجمال في الإبل، أو في الأنعام فإن كان بعضنا لا يدركه، لكن هناك من يدركه، وأظن الشباب الآن يدركون جمال السيارات، وموديلاتها، وألوانها.

فعلى كل حال المقصود: أن هذا لا حرج فيه في حدود ضوابط، فاستمتاعك بالجمال، بل حتى اقتناؤك للجمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الخيل: {هي لرجلٍ سِتر } فالرجل الذي يعطي حقها ويستمتع بها، ليس عليه شيء، ما دام أن يعطي حقها، فشعورك وإحساسك بالجمال في هذه الأشياء، أو في غيرها مما امتن الله عزَّ وجلَّ به جائز حتى في الحمير وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8] أي: تتخذها لغير الركوب، تتخذها للزينة، فالخيل والبغال والحمير ربما لا تتخذها للركوب، وتتخذها للزينة، فالآية لا تمنع من ذلك ما دام في حدود وضوابط الشرع. وإن شئتم آية أخرى فاقرءوا قول الله عزَّ وجلَّ: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل:60] ما معنى: (ذَاتَ بَهْجَةٍ)؟ معناه: أننا من حقنا أن نبتهج بألوان الزهور، وروائحها، وأشكالها؛ لأن الله ما قال: ( ذَاتَ بَهْجَةٍ) إلا من باب الامتنان، والله سبحانه وتعالى لا يمتن علينا إلا بمباح.

إذاً هذا له حدوده وضوابطه، لكن أن تستمتع، وأن تجد لذة، وأن تمارس لذتك المباحة في الاستمتاع كالاستمتاع مثلاً بالشم فلا بأس، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {حُبِّب إليَّ من دنياكم الطيب } فالطيب متعة وكمالي، وليس بضروري، بل الطيب من الكماليات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بنفسه وبزينته وجماله في حدود ما يَجِد، وكان يلبس للضيوف عليه الصلاة والسلام، ويوم الجمعة له حُلَّة، والعيدان لهما حُلَّة، والضيوف لهم حُلَّة، والحُلَّة هي: البدلة المتكاملة، وهي: الطقم الكامل بكامل اللبس، إزاراً ورداءًَ، أو قميصاً وسراويل، على حسب لباس كل بلد، فتسمى حلة، بمعنى: لباس كامل، فالمقصود أن دينَنا وسط: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:31-32] لكن لا إسراف، ولا غلو، ولا تصرف على الأساسيات، بل لها ضوابطها.



بحث عن بحث