أهمية المنهج الوسطي

 

لقد وصف الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بالوسطية فقال سبحانه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}البقرة143، وذلك لكونهم وسط بين الغالي والجافي, وقد فسر الصحابة رضوان الله عليهم الوسطية بأنها أمة عدلاً خياراً لما تتوسط فيه بين الغالي والجافي وليست كباقي الملل والنحل.

 

لماذا الوسطية لهذه الأمة !

إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت وسطاً بين الأديان بمنهجيتها وتوازنها في العلاقة بين المادة والروح, بين الواقعية والخيال, بين الإيجاب والسلب, بين الحب والكره, بين جميع خطوط النفس البشرية ؟

وسطية الإسلام في الأخلاق جعلت المسلم رجلاً بين اللين والقوة, فالخلق المحمود, والرحمة والمودة في التعامل لم تلغي العدل وقول الحق.

إن الوسطية جعلت المسلم ينظر إلى الحياة نظر عدل, قال الله تعالى:  {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}القصص77, وهذه سمة من سمات هذا الدين العظيم ,كيف لا وهو من عند الله سبحانه وتعالى.

إن منهج الوسطية الذي هو سمة من سمات هذه الأمة ضمن لها الاستمرار والبقاء, وأنه لا وجود ولا بقاء للمغالين والمجافين.

قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}الإسراء29, وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }الفرقان67.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف عديدة هذا المنهج الحق, روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أنس رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً, وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أُفطر وقال آخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له, لكني أصوم وأُفطر, وأصلي وأرقد, وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني ").

وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).

 وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أن النبي صلى عليه وسلم ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.

وبهذا يرتفع الحرج والضيق قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}الحج78,وقال: { مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ }المائدة6.

إن الوسطية شريعة العدل وغيرها إما إلى تفريط أو إفراط, وإما إلى الغلو أو الجفاء, إن الوسطية تدعوا إلى العلم والتعلم, ونبذ الهوى والتعصب, لذلك حثنا ديننا الحنيف على العلم والتعلم قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}محمد19, وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}فاطر28, وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}الزمر9.

إن منهج الوسطية تحتاج إلى معرفة صحيحة مبنية على أدلة واضحة ولم يؤت الناس إلا من الجهل, قال تعالى محذراً من الهوى وما يؤل إليه صاحبه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}الجاثية23, وقال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}المؤمنون71, وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}القصص50.

والتعصب منهج يحجر فيه صاحبه واسعاً, فالشريعة جاءت لرفع الحرج.

إن من سمات هذا الدين العظيم الصبر والثبات والاعتدال في الحكم, وذلك من أسباب التمكين.

قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }السجدة24.

ولنقف مع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه الاستقامة 1/40 في تأويله لهذه الآية مبيناً من خلاله, منهج الوسطية, وموضحاً أن عدم الاستعجال في الأمور من سمات الوسطية فيقول: (إن المظلوم وإن كان مأذونا له في دفع الظلم عنه بقوله تعالى:{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ }الشورى41، فذلك مشروط بشرطين.

أحدهما القدرة على ذلك, والثاني ألا يعتدي.

فإذا كان عاجزاً, أو كان الانتصار يفضى إلى عدوان زائد, لم يجز وهذا هو أصل النهى عن الفتنة , فكان إذا كان المنتصر عاجزاً, وانتصاره فيه عدوان زائد, فهذا ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة, والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان ,كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الأئمة إذا كان فيهم ظلم, لأن قتالهم فيه فساد أعظم من فساد ظلمهم).

فقه مؤصل مضبوط بضوابط الشرع العظيم يحاكي مفهوم الوسطية.

ومثل هذه المسألة المهمة التي يترتب عليها مواقف مصيرية إذا لم تطلب من كتاب الله وسنة رسوله فهي إلى الضلال أو كما حصل للخوارج والمتفلسفة والمتصوفة والمتفقهة فإن فهمهم المتفلت من ضابط الكتاب والسنة قد قادهم إلى ضلال كبير نتج عنه فساد أكبر.

يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}غافر56.

إن الوسطية التي تعتبر سمة من سمات هذه الأمة تتوافق مع طبيعة الإنسان, لأن ربنا سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها, والوسع: ما تسعه النفس.

والسعة تنافي الضيق والحرج, قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}الحج78,وقال: { مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ }المائدة6..

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الاستقامة 1/37: ( وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين، سواء كان قولاً أو فعلاً.

ويقول أيضاً 1/39: ( ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر، فالفتنة إما من ترك الحق، وإما من ترك الصبر، فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يُؤمر بالصبر، فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور، وإن كان مجتهداً في معرفة الحق ولم يصبر فليس هذا بوجه الحق مطلقا،ً لكن هذا وجه نوع حق فيما أصابه، فينبغي أن يصبر عليه، وإن كان مقصراً في معرفة الحق، فصارت ثلاثة ذنوب:

 أنه لم يجتهد في معرفة الحق، وأنه لم يصبه، وأنه لم يصبر.

والوسطية في الذكر والدعاء: خفض الصوت بين المخافتة والجهر، فقد روي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ( قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دنونا من المدينة كبر الناس ورفعوا أصواتهم فقال صلى الله عليه وسلم: ( يأيها الناس إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب إن الذي تدعون بينكم وبين أعناق ركابكم، ..... ) البخاري في الجهاد ( رقم 2992 ) ومسلم في الذكر والدعاء رقم 6822.

وقد قال ربنا سبحانه وتعالى{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}الأعراف55، لأن الذي تدعوه يسمع السر وأخفى، فإذا سمع الدعاء الخفي لاحاجة إلى رفع الصوت. ثم قال : {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }الأعراف55قال بعض المفسرين : أراد الذين يعتدون برفع أصواتهم في الدعاء.



بحث عن بحث