بقلم د . عبد الرزاق مرزوكَ

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

تمهيد :

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله إمام الفالحين والفالحات، وعلى آله وصحبه أهل الموازين الراجحات.

وبعد، فإنه لا يُتصور بوجه استغناء المسلم عن سيرة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فهو بحاجة مستمرة إلى عرض طاعته لله على هَدْيه المنيف الأجلى، وقياسها بِسَمْته الشريف الأعلى؛ كما قال – تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

فكما أن هاتين الخصلتين – رجاء الله واليوم الآخر، وذِكْر الله كثيرًا - سببٌ لحياة الإيمان وقوَّته؛ فكذلك الائْتِساءُ بِالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - واتّباع هديه، علامةٌ على قُوَّتِهما وأثرهما.

وهذا تشريفٌ لِشأْنِ السيرة النَّبويَّة، وإشادةٌ بِما يصرف إليها من العناية والرعاية، وأنَّها بِمَقامٍ لا يَعرِفُ قَدْرَه إلا المُستَمْسِكونَ بِاللَّه تعالى، الراجون لقاءه، العاكفون على ذكره، ولذلك أسرف الذين لا يرجون لقاءه في خُصومة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومُعَاداته، وَسَعَوْا في مضايقته وإغضابه؛ حتى طالبوه بأبغض شيءٍ إلى نفسه الكريمة، وأثقلِه عليها، وأشدِّها كراهية له؛ كما قال – تعالى -: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15].

ثُمَّ بيَّن الله - تعالى - مِقْدَارَ ما ساقَتْهُم إليه تلك المعاداة من الخيبة والخسران، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17].

فالضَّرورة إلى الائتساء به - صلَّى الله عليه وسلم - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعَيْنِ إِلَى نُورِها، والروح إلى حياتها، فأي ضروروة وحاجة فرضت، فَضَرُورة العبد وحاجته فوقها بكثير.

وما ظنُّك بمن إذا غاب عنك هديُه وما جاءَ به طَرْفَةَ عينٍ فسَدَ قلبُك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووُضع في المقلاة، فحالُ العبدِ عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال؛ بل أعظم..".

وليس الذي أورث أُمَّةَ الإِسلامِ من الضعف والهوان في الأزمان المتأخرة، وما ظهر فيهم وفي غيرهم من خرابِ القلوب، وخواء الأرواح، وذهاب العقول، وكثرة أمراض النفوس والأبدان وغرابتها، ليس ذلك كله إلا عَرَضًا من أعراض الجهل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، والاستهانة بهديه وحقوقه.

ولئن كان اسمه الشريف لا يزال على الألسنة مذكورًا، ورسمه على الجدر مزوقًا محفورًا، فإن روحَ التعلّق بهديه معدومةٌ، وسبلَ الإرشاد إلى معرفته والتحريض على اتباعه منتفيةٌ مهجورة، وينتظر المسلمون - كي يوقروه، ويغاروا عليه، ويُعزِّروه - أن يقلله في أعينهم باغٍ عليه من أعدائهم برسمٍ ساخر، أو تصريح جائر، أو يسبه ويشتمه من بني جلدتهم معتوه فاجر، وقد يعتذر اعتذار الماكر؛ فتزول تلك الغيرة المبتوتة، وتنطفئ تلك الجذوة الموقوتة، ونصرةٌ هذا ديدنها أشبه بعَلَم يُعلى لينكس؛ لا ترفع رأس أهل الديانة، ولا تصنع العزة ولا الكرامة.

ثم زاحم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في قلوب كثير من المسلمين وعقولهم – إن لم يحلوا محله - أئمةُ ضلال وفتنة لا يحصون من الرجال والنساء؛ تقتدي الجماهير بعُجَرِهم وبُجَرِهم غاية الاقتداء؛ يفرحون بإيابهم، ويحزنون على ذهابهم، ويقتل بعضهم أنفسهم حسرة وأسفًا إذا ماتوا.

فلا علاج لهذا الداء العضال إلا بصرف العناية إلى السيرة النبوية عامة، وضرورة التعلق بها؛ ليخرج المسلمون من عداد الجاهلين بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - ويصيروا من العارفين به وبسيرته، الداخلين في شيعته وأهل نصرته.

 

سبل العناية بالسيرة النبوية :

ولكي تجري تلك العنايَةُ على سنَنِ الرشد والبصيرة ؛ الكفيل بإخلاص القصد والسريرة، وقطف الثمار المرجوة النافعة؛ ينبغي إِخْضَاعِ منهج التصنيف في السيرة النبوية للنقد. . . .

وبيان الدواعي العلمية والموضوعية للزوم تجديده وتحديثه ، وما يسمح بالاختراع والإبداع فيه . . . .

والتحذير مما ترتب على إهماله من الأضرار؛ مما جعل الأمر أشبه بحالة استعجال خطيرة، لا يحتمل دفْع عِلَّتها من أجل القضاء على آثارها وأعراضها أدنى انتظار . . . 

وذكر الخطوات الأوليَّة والمنهجيَّة الضروريَّة لتحقيق ذلك . . .

وبيان نماذج مِمَّا يُمْكِن أن يَكُونَ سبيلَ عِناية نَقْدِيَّة مُرْضِية ، ومِفتاحًا كفِيلاً بِالإعانة على اسْتِئْنافِ مَشَاريعِ بَحْثٍ تمضي على نفس الطريق ، ويعول عليها في استكمال سائر المراحل، وضم باقي الوسائل الموصّلة إلى الغاية.

 

ولا يخفى أنَّ نَقْدَ المرويات أشمَلُ مِنْ أَنْ يرتبط بالحديث النبوي ، أو يرهن إعماله بمصطلحه، أو لا يكون لعِلْم الرجال، والجَرْح والتعديل أثر إلا في مصنفاته الخاصة؛ كالصِّحاح، والسنن، والمسانيد.

كلا! ولا يقولنَّ قائل: "إن السيرة النبوية من جنس علم الحديث؛ ففصلُها عنه تحصيل حاصل، ومحض تكلُّف، وما شمل مصطلحه من تلك العلوم يشمله".

فهذا قول المتحكّم، والجائر المتعسّف؛ إذ إنَّ لعلم القراءات أيضًا أسانيدَ مشتملة على حدثنا وأنبأنا كعلم الحديث؛ فهل عدَّهُما عاقل نوعين من جنس واحد؟ أم أنهما عند كل منصف مستقلان؟! لم يظلم خضوع القراءات للنقد من تميزها فتيلاً، ولا نقص من أطرافها كثيرًا ولا قليلاً؛ بل لا يزال عِلْمُها قائمًا بنفسه، وذَريعَتُها المعتبرة عند كافة أهل العلم: أن موضوعها غير موضوع علم الحديث!

وهَذَا الخَلْطُ هو الَّذِي جَرَّ على شأْنِ السّيرة النبوية التقليل، وعلى المقام النبوي الأعلى ما لا يليق، والقدح الخفي بالمجاملة والتلفيق؛ بأن أدخلها في عِداد (فضائل الأعمال)، التي يتساهل فيها بغض النظر عن ضعيف المرويات، فصار النبي - صلى الله عليه وسلم - موصوفًا بما لا يريد، ومحبوبًا بما لا يرضى.

فهذه شبهة قوية التأثير في ذهن مَن لم يفقه موضوع علم السيرة النبوية؛ الذي هو ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - الشريفة، وهيئة خَلقه الأتَمّ الأجمل، وأحوال خُلُقِه العظيم الأكمل على جهة التنويه به، وإحصاء شمائله الفريدة، وخصاله الجمة الحميدة.

فالحديثُ مُصْطَلَح، والسيرة مصطلح، والتفريق بينهما شرط الموضوعية والإنصاف، الذي يتواخاه (علم الاصْطِلاح)، وتَقْتَضِيه غاية العناية به.

وقد أصابتِ الأثرة السيرة النبوية من هذا الوجه أيضًا؛ فَلَمْ يُعتنَ بِمُصْطلحها الخطير كما اعتُني بِمُصطلحات سائر العلوم، فَظهرت الحاجة إلى ردِّ اعتبارها بما نملك، والقصد إلى إنصافها بما نستطيع.

فإن أردت التفصيل ؛ فاعلم أن رد ذلك الاعتبار بوسيلتين :


الأولى : الحرص على أن ينال عِلم السيرة حظه من التعريف والتأصيل، وأن يستخرج مصطلحه المدفون،
وينفخ في جذوته المغمورة؛ كي تُبرز مضامينه، ويُمد رواق حقْلِه الدلالي الحافل بمعْجَمٍ غَضّ أصيل؛ يستحق الإبداع والتحديث؛ فضلاً عن الإخراج والتحديد.


الثَّانِية
: ترشيد مسلك التعلّق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وطريق محبَّتِه؛ لا سيَّما أنَّ من غايات اشْتِمال السّيرة النَّبويَّة على الدلائل والمعجزات النبوية، والفضائل والشمائل المحمدية، تعليقَ قلوب العباد بتقديره، وتوقيره، وتعزيره، وصيانة حقوقه العليا، وواجبات تعظيمه المثلى.

فالمراد أن يقوم كل ذلك على العلم، واعتبار قواعده القاضية بلزوم الاكتفاء بما صحَّ من المرويات؛ كي لا يُحَبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بما أحبَّ هو وأراد، ويُبْعَدَ المكذوب مما نُسب إليه خطأ أو عمدًا، ولا يَخْفَى أنَّ شَرْطَ الصّدْقِ في ادّعاء المحبَّة بذلُ محابّ المحبوب ومراضيه، وطرح ما يسخطه ويستجفيه.

لِذلك عرَّف العلاَّمة القاضي عِياض - رحمه الله - محبَّةَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في "شفائه" بقوله: "مواطأة القلب لمراد المحبوب؛ يُحِب ما يحب، ويَكره ما يكره". "الشفا بشرح الملا علي القاري"، ص 53.

 

الغايات المرجوة من العناية النقدية بالسيرة النبوية :

إن شرط البحث العلمي أن تكون له ثمرة ؛ وإلا صار الجهد المبذول فيه عنتًا ونَصَبًا خالصًا، ويمكن تحديد الغايات الحقيقة بجلب الفائدة المرجوة ، وسد الحاجة المذكورة بذكر أمور أشبه باللبنات التي إن وضعت في مواضعها اكتمل البنيان ، وبدا أجمل وأشمل لشروط الرسوخه والسموق :

  استخراج دلالة السيرة النبوية في الاصطلاح .

  إبراز وجوه استحقاق علم السيرة أن يستقل عن علم الحديث من جهة الموضوع ، وذلك من نفس كلام أهل السير، بتفصيلٍ علمي لما أجمل منه ؛ لا سيما صنيع ابن هشام في مقدمة تهذيبه لمغازي ابن إسحاق.

  استخراج مسوغات ذلك من نفس صنيع المحدثين ؛ لا سيما أمير المؤمنين في الحديث محمد ابن إسماعيل البخاري في كتاب المناقب من صحيحه.

  توجيه مصطلح السيرة في كتب الفهارس المعتنية بتعريف العلوم؛ ليأخذ مكانه الجديد على نحو أوسع مما كان.

  التدليل على أن السيرة النبوية علم يعنى بشأن آخر وراء الإضافة والإخبار؛ وهو عَدُّ صفات النبي - صلى الله عليه وسلم – الحسنى، ومنازل تكريمه العظمى؛ تنويها بشأنه العلي، وقدره الزكي.

  بيان موضوع علم السيرة النبوية ، وغاية معرفته .

  التأكيد على أن تطبيق منهج النقد على مرويات السيرة النبوية ضرورةٌ شرعية وعلمية، وأن له موجبات تطبيقية على الحديث النبوي أشد خطورة؛ كتساهل بعض مصنفي الفضائل النبوية في رواية الخبر الضعيف ونحوه؛ تعلّقًا بحال التعظيم الوارد في متنه.

  إن "سيرة ابن إسحاق" لحقيقةٌ بالعناية النقدية؛ لكونها مرجعًا لكل مَن صنف بعده في السيرة النبوية، وما أصاب مصنفات الحديث النبوي مِن تتبع أسانيدها، والمفاضلة بينها، والترجمة لأهلها، قد عمَّ وكثر حتى فاض، بينما لقيت تلك المغازي المنيفة المشتهرة من الأثرة، ما أظهر افتقارها إلى مثل ذلك، وقد قدَّم العلامة ابن هشام لتهذيبه سيرة الإمام ابن إسحاق بذكر المنهج النقدي الكفيل بدفع تلك الأثرة عن علم السيرة، ورد الاعتبار إليه، فأسقطَ ما لا يَدخل في حد السيرة، وما دون مخرجه من الأخبار مفاوز، تقتضي طرحها وعدم الاعتداد بها.

  وضع ثبت يترجم فيه لرجال سيرة ابن هشام على طريقة نقاد الحديث، الذين وضعوا مصنفات في كتب الرجال؛ وذلك تمهيدًا لسبيل تحقيق سيرة ابن هشام، وتمييز صحيحها من ضعيفها؛ لا سيما مَن اشتهر من رواتها بنقل السيرة على سبيل الإفراد.

وختامًا؛ فإن الحياة في ظلال سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لتغمر النفس بنعيم لا يعرفه إلا مَن ذاقه، وإن في ذلك من الخير والفضل ما يزكي الأنفاس والأزمان، ويبارك في السعي، ويرفع شأن العبد.

وإن هذه المقالة المختصرة عبارة عن ملخص لرسالتي التي نلت بها درجة الدكتوراه في موضوع ( المنهج النقدي لتصنيف السيرة النبوية ) تخصص ( السيرة النبوية ) .

والله من وراء القصد؛ لا هادي سواه، والحمد لله رب العالمين.



بحث عن بحث