مشكل أحاديث إنشاء الله تعالى للنار خلقاً فيعذبهم فيها؟

(2-2 )

المبحث الثالث: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث:

للعلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث مسلكان:

المسلك الأول: مسلك تضعيف الحديث بهذا اللفظ، والجزم بوقوع الغلط فيه:حيث ذهب جماعةٌ من الأئمة إلى أنَّ الحديث لا يصح بهذا اللفظ، وأنَّه مما وقع فيه الغلط من بعض الرواة، حيث انقلب عليه الحديث، فجعل الإنشاء للنار، والصواب أنَّ الإنشاء للجنة، بدليل ما أخرجاه في الصحيحين - واللفظ للبخاري - من حديث

عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ" فذكر الحديث إلى أَنْ قال: "فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ. فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى(1) بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا" (2).

نقل الحافظ ابن حجر هذا المذهب: عن أبي الحسن القابسي، وشيخه البلقيني(3).

وممن جزم بوقوع الغلط في الحديث: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم ، والحافظ ابن كثير، وابن الوزير اليماني(4).

قال أبو الحسن القابسي: "المعروف في هذا الموضع أنَّ الله ينشئ للجنة خلقاً؛ وأما النار فيضع فيها قدمه، ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار إلا هذا" (5). اهـ

وقال ابن القيم: "وأما اللفظ الذي وقع في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة: "وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ"، فغلط من بعض الرواة، انقلب عليه لفظه، والروايات الصحيحة ونص القرآن يَرُدُّهُ، فإن الله سبحانه أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه، وأنه لا يُعذِّب إلا من قامت عليه حجته، وكذَّب رسله، قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}(6) ، ولا يظلم الله أحداً من خلقه" (7). اهـ

وقال الحافظ ابن كثير: "طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري ... "، ثم ذكر الحديث وقال: "فهذا إنما جاء في الجنة؛ لأنها دار فضل، وأما النار فإنها دار عدل، لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه، وقيام الحجة عليه، وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة وقالوا: لعله انقلب على الراوي ... " (8). اهـ

هذا هو المسلك الأول ، وفي الحلقات القادمة ــ بإذن الله تعالى ــ سنعرض للمسلك الثاني وبقية الكلام في هذه المسألة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـيُزْوَى: أي يُجمع ويُضم بعضها إلى بعض. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 313)ـ[1]

(2) ـأخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، حديث (4850)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث (2847).ـ

ـ(3) انظر: فتح الباري، لابن حجر (13/ 446)

(4) ـمقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، ص (89).، حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (12/ 322)، وحادي الأرواح (1/ 258، 278)، وأحكام أهل الذمة (2/ 1104 - 1108)، وزاد المعاد (1/ 226)، وطريق الهجرتين، ص (577)، تفسير ابن كثير (3/ 31)، إيثار الحق على الخلق، لابن الوزير اليماني (1/ 217 - 221).

(5) [الملك: 8]

(6)ـ فتح الباري، لابن حجر (13/ 446)ــ

(7)ـ حادي الأرواح 1/ 278 .

(8)ــ تفسير ابن كثير 3 / 31 .[1]



بحث عن بحث