المفاضلة بين الأنبياء عليهم السلام. (1-1)

.

وردت عدة روايات تفيد النهي عن التفضيل بين الأنبياء عليهم السلام ، من هذه الروايات

1 ــ : عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ )(1).

2 ــ : وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ )(2)

3 ــ : وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى )(3).

وهذا النهي عن التفضيل يبدوا في الظاهر متعارضا مع بعض الآيات القرآنية والتي تفيد  جواز التفضيل بين الأنبياء والرسل عليهم السلام

قال الله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [البقرة: 253].

وقال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [الإسراء: 55].

وقال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) [القلم: 48].

مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث :

أجمع العلماء على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعض، وأجمعوا على تفضيل الرسل منهم على الأنبياء؛ لتميزهم بالرسالة التي هي أفضل من النبوة، وأجمعوا على تفضيل أولي العزم منهم على بقيتهم، وعلى تفضيل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على الجميع.(4)

وأما أحاديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء فإنَّ للعلماء في دفع التعارض بينها وبين الآيات مسلكين:

الأول: مسلك الجمع:

وإليه صار الجمهور من العلماء، لكن اختلفوا في الجمع على مذاهب:

الأول: أنَّ النهي - في الأحاديث - محمولٌ على ما إذا كان التفضيل يؤدي إلى توهم النقص في المفضول، أو الغَضِّ منه، أو كان على وجه الإزراء به، وليس المراد النهي عن اعتقاد التفاضل بينهم في الدرجات؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه فاضل بينهم.

وهذا مذهب: الخطابي، والبغوي، والحليمي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن أبي العز الحنفي ، وحافظ حكمي(5).

قال المازري - فيما نقله عن بعض شيوخه-: "وقد خرج الحديث على سبب، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي، فقد يكون عليه الصلاة والسلام خاف أنْ يُفهم من هذه الفِعْلَة انتقاصُ حق موسى عليه السلام؛ فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق"(6). اهـ

وقال البغوي: "وليس معنى النهي عن التخيير أنْ يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم؛ فإنَّ الله عز وجل قد أخبرنا أنه فضل بعضهم على بعض، فقال الله سبحانه وتعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) بل معناه ترك التخيير على وجه الإزراء ببعضهم، والإخلال بالواجب من حقوقهم؛ فإنه يكون سبباً لفساد الاعتقاد في بعضهم، وذلك كفر"(7). اهـ

المذهب الثاني: أنَّ النهي محمول على ما إذا كان التفضيل يؤدي إلى المجادلة والمخاصمة والتشاجر والتنازع.

حكى هذا المذهب: النووي، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر(8).

ويؤيد هذا المذهب: سبب ورود الحديث؛ فعن أبي هريرة، وأبي  سعيد، رضي الله عنهما، قالا - واللفظ لأبي هريرة -: ( بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَامَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ وَقَالَ: تَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَظْهُرِنَا. فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا فَمَا بَالُ فُلَانٍ لَطَمَ وَجْهِي. فَقَالَ: لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ فَذَكَرَهُ. فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ، أَمْ بُعِثَ قَبْلِي، وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى )(9).

قالوا: فالنهي إنما ورد إثر هذه الخصومة؛ فهو محمولٌ على مثل هذه الحالة.

المذهب الثالث: أنَّ النهي محمولٌ على ما إذا كان التفضيل بمجرد الرأي والهوى، لا بمقتضى الدليل.

وهذا مذهب: الطحاوي، وابن كثير، والمناوي، والسندي، وابن عثيمين، وهو الظاهر من كلام الشوكاني(10).

قال الطحاوي: "وَكَانَ هَذَا عَنَدْنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ وَعَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمْ بِآرَائِنَا وَبِمَا لَمْ يُوقِفْنَا عَلَيْهِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، فَأَمَّا مَا بَيَّنَهُ لَنَا وَأَعْلَمَنَا فَقَدْ أَطْلَقَهُ لَنَا وَعَادَ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ إلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، وَلَمْ يُطْلِقْ لَنَا الْقَوْلَ فِيهِ بِمَا قَدْ تَوَلَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنَعَنَا مِنْهُ، وَاَللَّهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ"(11). اهـ

وقال الحافظ ابن كثير: "قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة: 253]لا ينافي ما ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ"؛ فإنَّ المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التَّشهّي والعصبية، لا بمقتضى الدليل، فإذا دلَّ الدليل على شيء وجب اتباعه )(12). اهـ

المذهب الرابع: أنَّ نهيه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو على سبيل التواضع منه؛ لأنه يعلم أنه أفضل الأنبياء، يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم وَلَا فَخْرَ )(13).

وهذا قول: ابن قتيبة، واختاره وجهاً آخر في الجمع: ابن كثير، والسيوطي(14).

المذهب الخامس: أنَّ المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أُخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتُخِذَ خليلاً، ومنهم من كلم اللهُ، ورفع بعضهم درجات.

وهذا مذهب: أبي عبد الله القرطبي(15) .

المذهب السادس: أنَّ المراد بالنهي: المنع من تعيين المفضول؛ فلا يُفَضَّل أحدٌ من الرسل على آخر بعينه؛ لأنَّ في ذلك تنقيصٌ للمفضول وغضٌّ منه، وأما تفضيل بعضهم على بعض في الجملة فلا مانع منه.

وهذا مذهب: ابن عطية، وابن جزي، وأبي حيان، وابن عاشور(16).

المذهب السابع: أنَّ الآيات فيها إخبار من الله تعالى بأنه فضَّل بعض أنبيائه على بعض، وأما السنة ففيها النهي لعباده أنْ يُفَضَّلوا بين أنبيائه، فيكون النّهي خاصاً بآحاد الناس، فليس لأحد أنْ يُفضِّل بين الأنبياء، وأما الله تعالى فله أنْ يُفاضل بين خلقه كما يشاء سبحانه.

وهذا المذهب: ذكره ابن كثير ، ويحتمل وجهاً آخر عند الشوكاني.

قال الشوكاني: "وعندي أنه لا تعارُض بين القرآن والسنة؛ فإنَّ القرآن دلَّ على أنَّ الله فضَّل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أنَّ نُفَضِّل بعضهم على بعض، فإنَّ المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله، لا تخفى عليه مِنَّا خافية، وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل أتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلاً عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلاً وهذا مفضولاً، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها؛ فإنَّ ذلك تفضيل بالجهل، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له، وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يَرِدْ إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أنْ يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك، وإذا عرفتَ هذا علمتَ أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أنْ يفضلوا بين أنبيائه"(17). اه

_______________

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الأنبياء، حديث (3233)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الفضائل، حديث (2373).

(2) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الخصومات، حديث (2281)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الفضائل، حديث (2374)ـ

(3) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الأنبياء، حديث (3231).

(4) انظر: لوامع الأنوار البهية، للسفاريني (1/ 49 - 50)، ومفاتيح الغيب، للرازي (6/ 165)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص (8)، ومجموع الفتاوى (14/ 432)، كلاهما، لابن تيمية، وتفسير ابن كثير (3/ 50)، واللباب في علوم الكتاب، لابن عادل (4/ 298)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي (3/ 26).ـ

(5) انظر على الترتيب: معالم السنن، للخطابي (4/ 286)، وشرح السنة، للبغوي (7/ 11)، والمنهاج في شعب الإيمان، للحليمي (2/ 117 - 118)، ومنهاج السنة (7/ 256)، ومجموع الفتاوى (14/ 436)، كلاهما لابن تيمية، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 159)، ومعارج القبول، لحافظ حكمي (3/ 1124).ـ

(6) المعلم للمازري ( 3 / 134 ) .

(7) شرح السنة ( 7 / 11 ).

(8) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (15/ 55)، وتفسير ابن كثير (1/ 311) وفتح الباري، لابن حجر (6/ 514، 521).

(9) سبق تخريجه في تخريج أحاديث المسألة .

(10) انظر على الترتيب: مشكل الآثار، للطحاوي (1/ 57)، وتفسير ابن كثير (3/ 50)، وفيض القدير، للمناوي (3/ 42)، وشرح سنن ابن ماجة، للسندي (4/ 505)، وتفسير ابن عثيمين، البقرة(3/ 239)، وفتح القدير، للشوكاني (1/ 407).ة

(11) مشكل الآثار للطحاوي ( 1/ 57 ).

(12) تفسير ابن كثير ( 3 / 05 ) .

 (13) أخرجه ابن ماجة في سننه، في كتاب الزهد، حديث (4308)، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ، وَلِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ".

وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، كما في التقريب (2/ 43).

وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله، أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 660)، من حديث عبيد الله بن إسحاق العطار، حدثنا القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، حدثني أبي، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر". قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي: "بأن عبيد الله ضعفه غير واحد، والقاسم متروك تالف".

والحديث صححه الألباني، في صحيح ابن ماجة (3/ 402)، حديث (4384)، وصحيح الترغيب والترهيب، حديث (3643). وأصله في الصحيحين لكن دون قوله: "ولا فخر".

(14) فقد أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، حديث (4712)، ولفظه: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وأخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفضائل، حديث (2278)، ولفظه: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ".

 1ــانظر على الترتيب: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة (1/ 116)، والبداية والنهاية، لابن كثير(1/ 222، 291)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي (3/ 26).

(15) تفسير القرطبي ( 3 / 263 ) .

(16) انظر على الترتيب: المحرر الوجيز، لابن عطية (1/ 338)، والتسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (1/ 130)، وتفسير البحر المحيط، لأبي حيان (2/ 282)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (3/ 7).ـ

(17) فتح القدير ( 1 / 407 ) .



بحث عن بحث