معالم منهج المحدثين في معرفة ضبط الراوي

 

 معالم منهج المحدثين في معرفة ضبط الراوي:

يقول ابن الصلاح: «يعرف كون الراوي ضابطًا بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطًا ثبتًا، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه»(1).

والمقصود أن الأئمة لا يوثقون أحدًا حتى يطلعوا على عدة أحاديث للراوي تكون مستقيمة وتكثر حتى يغلب على الظن أن الاستقامة كانت ملكة لذلك الراوي، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي(2).

وتفصيل ذلك أن الناقد إذا أراد معرفة حال راو فإنه يعمد إلى جمع مروياته ويتتبع كل الطرق إليها ولا يكتفي بمجرد ورود مروياته من طرق معينة حتى يعرف أن تلك المرويات رويت عنه على الوجه، ولم يحدث خطأ ممن تحته فيها، فإذا تجمعت لديه مرويات الراوي خالية من أخطاء غيره وازن بينها وبين مرويات الثقات الذين شاركوه في الرواية عن شيوخه مع اعتبار مرويات أولئك الثقات أيضًا حتى لا يوازن بين مرويات الراوي الذي يبحث عن حاله مع أخطاء الثقات، فإذا ما وجد أن مرويات ذلك الراوي تشابه روايات الثقات ولا تخالفها اعتبر ضابطًا لما يرويه، فإذا وجد بعض الأخطاء النادر اغتفر له ذلك مع تنبيهه على ما أخطأ فيه، فإذا كثر خطؤه وفحش غلطه ضعف أو ترك.

فاستبان بهذا أن طريق معرفة حال الراوي تحتاج إلى اطلاع واسع على مرويات الرواة وأسانيدهم.

وقد تشتبه هذه الطريقة في سبر حال الراوي بطريقة المحدثين في معرفة علة الحديث، حيث تعتمد طريقة معرفة العلة على سبر روايات هذا الحديث بعينه عند كل الرواة الثقات وغيرهم، والموازنة بينها، وقد يوازن بين روايات الضعفاء مع الثقات أو روايات الثقات مع بعضهم، بغية التوصل إلى الرواية التي اجتمع عليها الأكثر من الثقات الضابطين.

وبهذا يستبين أن طريق معرفة حال الراوي تكون بسبر كل مروياته وموازنتها بمرويات الثقات من طبقته.

أما طريقة معرفة العلة فتكون بسبر روايات الحديث الواحد عند كل الرواة الذين رووا هذا الحديث لمعرفة مصدر الخطأ لو وجد ومعرفة الرواية المنضبطة المحفوظة.

ومن معالم هذا المنهج:

1ـ عني المحدثون بوضع قواعد عامة في الجرح والتعديل تضبط هذا الميدان وتجعل له بعدا منظما واضحا وتنأى به عن الأحكام الشخصية القائمة على الذوق أو الهوى، بحث يدل دلالة واضحة على علمية منهج النقد عند المحدثين.

2ـ اختلفت بعض عبارات التعديل والتجريح عند النقاد، فعني المحدثون بضبط تلك العبارات وبيان مراتبها وتحرير مراد النقاد منها بحيث بدت ألفاظ الجرح والتعديل كأنها اصطلاح عند كل النقاد وهو ما يؤكد تماسك وتناسق منهج النقد عند المحدثين.

3ـ نظرية الجرح والتعديل نظرية متكاملة، تمثل ركنا مهما في منهج النقد عند المحدثين، وقد عني النقاد والمحدثين بإقامة هذه النظرية على أسس علمية رصينة تشمل التأصيل والتقعيد والتطبيق.

هذا وقد أرشد النقاد إلى ضرورة مراعاة أمور فنية عند النظر في كتب الجرح والتعديل ، ذكروها ليحتاط الناظر من أن يشرع في تلقف الأحكام دون ترو وبصيرة فيؤدي به الحال إلى الخطأ أو الحكم الجزاف

ومن تلك الإرشادات:

1 ـ إذا بحث الباحث في ترجمة راو، فليتحقق أن تلك الترجمة هي لذاك الرجل ، فإن الأسماء كثيرا ما تشتبه ويقع الغلط والمغالطة.

2ـ  أن يستوثق الباحث من النسخة التي ينظر فيها وليراجع غيرها إن تيسر له ليتحقق أن ما فيها ثابت عن مؤلف الكتاب .

 3 ـ إذا وجد الباحث في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة فلينظر أثابتة هي عن ذاك الإمام أم لا؟

4- وإذا رأى في الترجمة «وثقه فلان» أو «ضعفه فلان» أو «كذبه فلان» فليبحث عن عبارة فلان، فقد يكون قال «هو ثقة» أو «هو ضعيف».

5- أصحاب الكتب كثيرا ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره وربما يخل بذلك بالمعنى، فينبغي أن يراجع عدة كتب، فإذا وجد اختلافا بحث عن العبارة الأصلية ليبني عليها.

6- للبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعينا على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه بكلام غيره.


(1) علوم الحديث، لابن الصلاح، ص(116).

(2) التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، عبد الرحمن المعلمي (1/67).

 



بحث عن بحث