قواعد في التخريج (4)

قاعدة (5 )

مراعاة منهج المحدثين في ترتيب مصادر التخريج ؛ ذلك أن للمحدثين قانونا عاما في ترتيب المصادر ، فينبغي ملاحظة ذلك في التخريج ؛ لأن الإخلال به يجعل صاحبه في محل المؤاخذة ، كما صنع المناوي في استدراكاته على السيوطي في (( فيض القدير )) .

وترتيب المصادر إما أن يكون بحسب الشهرة ، أو بحسب الوفيات ، أو بحسب المتابعات :

أ ـ من حيث الشهرة :

فالكتب الستة متقدمة على غيرها ، ثم المسانيد ، ثم المعاجم ، ثم المصنفات ، ثم الأجزاء الحديثية ، وقد قرر ذلك العلماء .

قال الدهلوي في كتابه (( حجة الله البالغة )) : ( وكتب الحديث على طبقات مختلفة ومنازل متباينة ، فوجب الاعتناء بمعرفة طبقات كتب الحديث ، فنقول : هي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات :

فالطبقة الأولى : محصورة بالاستقراء في ثلاثة كتب : الموطأ ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم .

والطبقة الثانية : كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين ، ولكنها تتلوها ؛ كسنن أبي داود ، وجامع الترمذي ، ومجتبى النسائي .

والطبقة الثالثة : مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم ، وفي زمانهما ، وبعدهما ؛ جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف والغريب والشاذ والمنكر والخطأ والصواب ، والثابت والمقلوب ، ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار ؛ كمسند أبي يعلى ، ومصنف عبد الرازق ، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ، ومسند عبد بن حميد ، ومسند الطيالسي ، وكتب البيهقي ، والطحاوي ، والطبراني .

والطبقة الرابعة : كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين ، وكانت في المجامع والمسانيد المختفية ، فنوهوا بأمرها ، وكانت على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون ، ككثير من الوعاظ المتشدقين وأهل الأهواء والضعفاء .. ومظنة هذه الأحاديث كتاب (( الضعفاء )) لابن حبان ، وكامل ابن عدي ، وكتب الخطيب ، وأبي نعيم ، والجوزقاني ، وابن عساكر ، وابن النجار ، والديلمي ) أ.هـ .(1)

ويلاحظ من خلال الكلام السابق أن الكتب الستة متقدمة على غيرها إجمالا ، وكذا الترتيب داخل الكتب الستة نفسها ، فقد أجمع العلماء على أن الصحيحين متقدمان على الأربعة ، وهذا باتفاق العلماء ، وأما تقديم أحد الأربعة على الآخر فهذا محل خلاف بين أهل العلم ، فبعضهم قدم سنن الترمذي على أبي داود والنسائي ، وبعضهم قدم النسائي عليهما لكونه اشترط شرطا في الرجال أشد من غيره ، وغالب أهل العلم جرى على تقديم سنن أبي داود على جميع السنن .

قال د. أحمد معبد : (( وعلى كل فالترتيب في الكتب الأربعة فيما بينها يكون ـ في التخريج ـ مقيدا بقيود يمكن توضيحها على النحو التالي :

إن كان من ناحية حصر أحاديث الأحكام واستيعاب ألفاظها ؛ فأبو داود مقدم على غيره ، حتى قال بعضهم : إن سنن الإمام أبي داود يعتبر مصدرا من مصادر زيادة الثقات في الأحكام لعنايته بذلك .

وإن كان المقصود تعقيب كل حديث بحكمه ودرجته مع بيان الصناعة الحديثية ؛ فالترمذي مقدم على غيره.

وإن كان المراد فقه التبويب أو إيراد الحديث المعل ثم رفع العلة بإيراد حديث ثابت وموضح العلة ؛ فالنسائي مقدم .

وإن كان المراد البحث في سند الحديث وبيان أسماء رجاله أو كناهم أو ألقابهم هو المقصود ؛ فابن ماجه مقدم لعنايته بذلك .

وأما من ناحية درجة القوة فالثلاثة مقدمون على ابن ماجه،وكثير من أهل العلم لم يلتفت للقيود المذكورة،وإنما قدم الأشهر فالأشهر).أ.هـ (2)

والذي عليه العمل الآن : تقديم سنن أبي داود ، ثم الترمذي ، ثم النسائي ، ثم ابن ماجه .

والذي لا يلتزم بذلك فإنه يؤاخذ ؛ والدليل على مراعاة العلماء لهذا الترتيب : ما انتقد به المناوي على السيوطي ؛ حيث تعقبه ( 2/ 378 ) في عزو حديث (( إن الفخذ عورة )) وقد عزاه السيوطي إلى الحاكم ، وقال الحاكم : صحيح وأقره الذهبي ، وقال المناوي :( يقتضي تصرف المؤلف ـ يعني السيوطي ـ أنه لا يوجد مخرجا في أحد الستة ، وإلا لما عدل عنه على القانون المعروف ، فقد رواه أبو داود في الحمام عن جرهد المذكور ـ وكان من أصحاب الصفة ـ وخرجه البخاري في (( تاريخه الكبير )) ، والترمذي في (( الاستئذان ))، فإضراب المصنف عن ذلك كله صفحا،واقتصاره على الحاكم قصور وتقصير مستبين ) أ.هـ .

وتعقبه أيضا (2/12 ـ 13 ) في حديث (( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )) حيث عزاه إلى الطبراني عن ابن عباس وعن عمران بن حصين ، وحكم عليه بالصحة ، قال المناوي : ( وظاهر عدوله إلى الطبراني واقتصاره عليه أنه لا يوجد مخرجا لأحد من الستة ، والأمر بخلافه ، فقد أخرجه الشيخان من حديث علي ) أ.هـ .

فهذه القاعدة بالنسبة لتقديم الستة على غيرها عند التخريج ،يحتكم إليها المناوي في تعقباته على السيوطي من أول (( فيض القدير )) إلى آخره ، فصنيعه يدل على أن القاعدة عامة ومقررة عند العلماء ، وأما ما لم يكن في أحد الستة فالمعروف عندهم تقديم المسانيد على المعاجم لشهرتها .

مثاله : حديث (( أفضل الأعمال : الإيمان بالله وحده ، ثم الجهاد ، ثم ححجة برة )) عزاه السيوطي إلى الطبراني عن ماعز ورمز له بالحسن ، قال المناوي : ( 2/ 27 ) ( ظاهر صنيع المصنف أنه لا يوجد إلا عند الطبراني ، وهو عجيب ، فقد أخرجه أحمد في المسند ، وقال الهيثمي بعدما عزاه له وللطبراني : رجال أحمد رجال الصحيح ) أ.هـ .

ومن هنا يعرف أنه كان ينبغي الابتداء بالأشهر ، وهذا موجود في (( نصب الراية )) للزيلعي ، و (( منية الألمعي )) لابن قطلوبغا ، وفي (( البدر المنير )) لابن الملقن ، و(( التلخيص الحبير )) و (( نتائج الأفكار )) لابن حجر .

هذا وسنأتي في الحلقات القادمة ــ إن شاء الله ــ على ذكر ما يتعلق بباقي هذه القاعدة وبقية القواعد الأخرى .


 


(1) انظر : حجة الله البالغة : 132 ـ 135 .

(2) محاضرات في التخريج للدكتور أحمد معبد .



بحث عن بحث