القاعدة الثانية : وضوح الرؤية والهدف (6-7)

 

 

 

ركائز الداعية في تحقيق أهداف الدعوة- المَعلم الثاني:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،،،،

ففي هذه الحلقة نبين: ركائز الداعية في تحقيق أهداف الدعوة- المعلم الثاني:

2-المعلم الثاني: العلم والبصيرة:

إن من أعظم ضروريات الدعوة إلى الله تعالى أن يكون الداعية عالـمًا مدركًا لما يدعوا إليه، فقيها فيه بخاصة.

قال تعالى: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].

والبصيرة أخص من العلم العام، وفيها معنى زائد عليه، فهي تعني: البينة، والإدراك، والوضوح، والفهم، واليقين (1) .

ومن البصيرة: أن يدرك الداعية عواقب الأمور، وأن لا يغفل عن النتائج في أقواله وتصرفاته.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فلابد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان من الثلاثة مستصحبًا في هذه الأحوال»، وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعًا، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه»(2) .

فالفقه قبل الأمر، ليعرف المعروف وينكر المنكر، وهذا شرط من شروط الدعوة إلى الله تعالى، وواجب من واجبات الداعية أن يكون الداعية مدركًا لما يدعوا إليه، متحليًا بالفطنة، متسلحًا باليقين، ثابت الخطوة، واضح الرؤية في دعوته، ومدعويه، وفيمن حوله من أصدقاء وأعداء، وما يقع من أحداث.. فكل هذه المعاني تتضمنها «البصيرة» فهذا الشرط الذي ألزم الله به الدعاة في دعوتهم.

ولهذا فلا يجوز للمسلم أن يدعوا إلى الله إلا بعد أن يحمل قدرًا من العلم يكفيه في دعوته، وفهمًا ووضوحًا ينير له طريقه.

فالعلم يسدد له مسيرته، والفهم يوضح له رؤيته، فمن لم يحمل العلم في دعوته انحرف، ومن لم يكن على بصيرة تعثر.

وفضلًا عن هذا، فإن الداعية بغير بصيرة آثم عند الله لمخالفته أمر الله، ولأن فاقد البصيرة «العلم والفهم» لا يضل نفسه فحسب، بل يضل معها غيرها ممن يدعوهم، قال تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) [الحج : 3]، فلربما جعل الأمر نهيًا، والنهي أمرًا، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة.

ولربما دعا إلى أمر غير مشروع، باسم الدين، كمن يعلم الناس الضلال والابتداع باسم الدين، كالخوارج والمعتزلة، وغلاة الصوفية والروافض ولهذا حذر الله من أمثال هؤلاء فقال سبحانه: (وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ)  [الأنعام: 119].

وقد عدَّ الله كل قول بغير علم افتراء، فكيف إذا كان في الدين والدعوة إليه، قال تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)  [الإسراء: 36].

وقال سبحانه بعد أن عدد بعض أقوال الكافرين وأفعالهم الكفرية ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ)  [الأنعام: 140].

ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم  من سمع مقالته أن يعيها حتى يبلغها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : «نضر الله امرءًا سمع منه شيئًا فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع» (3).

ولأهمية هذا عقد الإمام البخاري بابًا في صحيحه «باب العلم قبل القول والعمل»، فإن العلم يسدد القول، ويصوب العمل.

قال ابن حجر: «قال ابن المنير: أراد به: أن العلم شرط في صحة القول والعمل»، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما (4) .

وقال ابن حيان الأندلسي: «لأن الدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر، وكيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشر، فإن الجاهل ربما أمر بمنكر، ونهى عن معروف... وقد يغلظ في مواضع اللين، وبالعكس» (5) .

وقال الحسن محذرًا من ترك العلم والابتعاد عنه: «العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبًا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا يضر بالعلم، فإن قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم  ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا» (6) .

ومن هنا كان القول على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم  من أخطر الذنوب والمحرمات لما فيه من الضلال والإضلال.

قال ابن القيم: «وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات وأعظمها إثما... وهو أصل الشرك وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم... واصل الشرك والكفر هو القول على الله بلا علم...» (7) .

وعليه فيجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يتعرفوا على الحكم الشرعي في المسألة التي يرغبون الدعوة إليها، وأن يتعرفوا على أقوال العلماء حولها إن تعددت أقوالهم واختلفت مذاهبهم فيها، كما أن عليهم أن يعلموا رتبتها من الدين، وأن يتعرفوا على مقاصد الإسلام في تشريعاته وأحكامه.

والخلاصة: أن يبني هدفه على علم وبصيرة، وفهم وإدراك، ووضوح رؤية، لا أن يستخدم الهوى، والعقل المجرد، والتقليد للآخرين، فمفهوم البصيرة شامل لذلك كله.

وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى ببيان: المَعلم الثالث من ركائز الداعية في تحقيق أهداف الدعوة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


(1)  انظر: لسان العرب: (4/67).

(2)  مجموع الفتاوى: (28/137)، والحديث لا يصح سندًا بهذا اللفظ، وإن كان صحيح المعنى وورد بألفاظ مقاربة، وكلها ضعيفة، فقد ذكره الغزالي في الإحياء: (2/333)، وقال العراقي لم أجده هكذا وللبيهقي في الشعب: (7603) من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: (من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف) وفيه ضعيفان، وضعفه الألباني في الضعيفة: (590).

(3)  أخرجه البخاري: (2/216رقم1741)، كتاب العلم، باب الخطبة أيام منى.

(4)  فتح الباري: (1/160).

(5)  تفسير البحر المحيط: (3/20).

(6)  جامع بيان العلم وفضله: (1/136).

(7)  مدارج السالكين: (1/404،403).

 



بحث عن بحث