المبحث الثاني الجهات بالنسبة للأجرام السماوية:

 

 

  حديث أبي هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه، إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : «هل تدرون ما هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: «هذا العنان، هذه زوايا الأرض يسوقه الله تبارك وتعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه». ثم قال: «هل تدرون ما فوقكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها الرقيع، سقف محفوظ، وموج مكفوف». ثم قال: «هل تدرون كم بينكم وبينها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام». ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن فوق ذلك سمائين، بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة». حتى عد سبع سماوات، ما بين كل سمائين كما بين السماء والأرض، ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد مثل ما بين السمائين». ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحتكم؟» قالوا الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها الأرض» (1). ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن تحتها أرضاً أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة». حتى عدَّ سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة.... الحديث(*).

  أخرجه الترمذي(2)، وأحمد(3)، وابن أبي عاصم(4)، وأبو الشيخ(5)، والبيهقي – في الأسماء والصفات –(6) وابن الجوزي(7)، كلهم من طرق عن قتادة ابن دعامة، عن الحسن البصري، عنه.

  وتمامه: ثم قال: «والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلاً بحبل إلى الأرض السفلى، لهبط على الله» ثم قرأ: ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الحديد:3].

  قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، ويُروى أن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة".

  وقال البيهقي: "وفي رواية الحسن عن أبي هريرة انقطاع ، ولا يثبت سماعه من أبي هريرة، وروي من وجه آخر منقطع عن أبي ذر(8) مرفوعاً".

  وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحسن لم يسمع من أبي هريرة".

  وقال الذهبي في العلو – بعد أن ذكر الحديث –: "الحسن مدلس، والمتن منكر، وفيه تباين الأرضين بأبعد مسافة، وهذا لا يعقل"(9).

  وجل النقاد ينفون سماع الحسن البصري من أبي هريرة، بل لم أقف على من أثبت له سماعاً منه، وهو – أي الحسن – (يرسل كثيراً، ويدلس) (10)، وصفه النسائي وغيره، بتدليس الإسناد(11)، وقد عنعن في هذا الحديث، فهو حديث ضعيف، مع ما فيه من النكارة في قوله: «لو أنكم دليتم رجلاً بحبل إلى الأرض السفلى، لهبط على الله».

  ويضاف إلى هذا، أن الطبري أخرجه بسنده عن قتادة، مرسلاً(12).

    وقال ابن كثير – بعد أن ساق رواية الطبري –: "ولعل هذا هو المحفوظ"(13).

 

الاستدلال :

  استدل به الشيخ عبدالعزيز بن خلف العبدالله، في كتابه (الأجزاء الكونية بين العقل والنقل) فقال: "ويؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم بسياق مكان الأرضين، بقوله: «تحتكم» أنه يمثل بذلك الحقيقة التي أدركها العلم الحديث، من أن من كان في أعلى الأجرام السماوية، في المجموعة الشمسية، أنه يرى أرضنا من فوقه، فقوله صلى الله عليه وسلم لا يتناقض مع أي محسوس في هذا الوجود، سواء كان في الأرض، أو في السماء، وسواء كان في صريح منطوق الرسول صلى الله عليه وسلم أو في مفهومه، لأنه قد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم "(14). اهـ.

التعليق :

  على فرض صحة الحديث، لم أر لاستدلاله وجهاً وجيهاً، فما علاقة قول النبي صلى الله عليه وسلم : «هل تدرون ما الذي تحتكم؟»، ثم إجابته صلى الله عليه وسلم بـ «فإنها الأرض».

  ما علاقة ذلك، بالجهات بالنسبة للأجرام السماوية؟!!

  وأما ما يتعلق بالجهات، فقد بينه شيخ الإسلام ابن تيمية، بياناً بديعاً، فقال: "من المعلوم باتفاق من يعلم هذا، أن الأفلاك مستديرة، كرية الشكل، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهي المحدب، وأن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط.

  وأما الجهات الست فهي للحيوان، فإن له ست جوانب، يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف الأخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي يمينه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذري رجليه، وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون شمال هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا.

لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو، والمركز هو السفل، مع أن جهة الأرض التي وضعها الله للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي عليه الناس والبهائم، والشجر والنبات، والجبال والأنهار الجارية.

فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم، ولو قُدَّر أن هناك أحداً لكان على ظهر الأرض، ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس.

وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض، وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً، كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها، وجوانب الفلك المستديرة، ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات والأثقال، لا يقال أنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي، كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف، فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيه.

وكذلك من علق منكوساً فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه تلي السماء، وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك، أن الجانب الآخر تحته، وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان، ممن يقول أن الأفلاك مستديرة" (15). 


(1)       ما بين المعكوفات سقط عند المستدل.

(*)        الأجزاء الكونية بين العقل والنقل ص (212، 412).

(2)       سنن الترمذي – كتاب التفسير – باب ومن سورة الحديد (5/376، 377ح 3298).

(3)       المسند (2/370).

(4)       السنة (1/254ح 578).

(5)       العظمة (2/560 – 564ح 201، 202).

(6)       الأسماء والصفات، ص (399، 400).

(7)       العلل المتناهية (1/12، 13ح8).

(8)       أخرجه أبو الشيخ في كتابه العظمة (2/557، 558ح199)، وقال محققه: "أورده الذهبي في تذكرة الحفاظ (2/748) بسنده عن المؤلف. وقد أخرجه أبو جعفر بن أبي شيبة في كتاب العرش (ق109/1) عن إبراهيم بن أبي معاوية، وهناد بن السري، والبيهقي في الأسماء والصفات، ص

 (506) بسنده عن أحمد بن عبدالجبار، ومن طريق البيهقي أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/11– 12)، والجوزقاني في الأباطيل (1/68) كلهم عن أبي معاوية، عن الأعمش بن أبي نصر، عن أبي ذر، بنحوه. ولا توجد عند ابن أبي شيبة الجملة الأخيرة: «ولو حفرتم لصاحبكم». وعند البيهقي زيادة: «وغلظ السماء الدنيا خمس مائة عام» بعد  قوله : «ما بين السماء والأرض مسيرة خمس مائة عام». وقد سقط من السند في الأسماء والصفات ذكر (أبي نصر).

قال ابن الجوزي: (هذا حديث منكر، رواه عن الأعمش، محاضر، فخالف فيه أبا معاوية، فقال: عن الأعمش، عن عمرو بن مرة بن أبي نصر. وكان الأعمش يروي عن الضعفاء ويدلس).

وهكذا ذكر الجوزقاني أيضاً، فإنه قال: (هذا حديث منكر، رواه عن الأعمش، محاضر، فخالف فيه أبا معاوية). وقال ابن كثير في تفسيره 4/303): (وفي إسناده نظر، وفي متنه غرابة ونكارة، والله I أعلم). وقوله: (في إسناده نظر) ذلك لأن أبا نصر لم يسمع من أبي ذر،كما قال البزار في مسنده ــ ص (200) ــ: (أحسبه حميد بن هلال، ولم يسمع من أبي ذر). وأيضاً لم يسمع الأعمش من أبي نصر؛ ففيه انقطاعان، ولذلك وصفه البيهقي بالانقطاع فقال: (وروي من وجه منقطع عن أبي ذر مرفوعاً). ووافقه الألباني في تخريجه للسنة (1/255)".اهـ.

وليس فيه موضع الاستدلال هنا، ولذا اكتفيت بكلام المحقق.

(9) العلو للعلي الغفار، ص (60، 61).

(10) تقريب التهذيب، ص (160).

(11) طبقات المدلسين، ص (29).

(12)     تفسير الطبري (جامع البيان...) (27/216).

(13) تفسير ابن كثير (8/33).

(14)  الأجزاء الكونية بين العقل والنقل ص (114).

(15) مجموع الفتاوى (6/565، 566)، و (25/196، 197).

 

 



بحث عن بحث