المبحث الرابع : (الجبال أوتاد)

 

   حديث «عندما خلق الله الأرض، جعلت تميد، فأرساها الله بالجبال»(*)أخرجه الترمذي(1)، وأحمد(2)، وعبد بن حميد(3)، وابن مندة(4)، كلهم من طريق يزيد بن هارون.

   وأخرجه أبو الشيخ(5)، من طريق هشيم بن بشير القاسم الواسطي كلاهما عن العوام بن حوشب الشيباني، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تميد؛ فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت، فعجبت الملائكة من شدة الجبال؛ فقالوا: يا رب، هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالوا: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. فقالوا:

يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء. قالوا: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالوا: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بصدقة بيمينه يخفيها من شماله».

   هذا لفظ الترمذي، وقريباً منه لفظ أبي الشيخ، وأما لفظ أحمد، وعبد بن حميد، وابن مندة، فهو: «فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت»، وباقيه بمثله.

   وفي إسناده سليمان بن أبي سليمان هو مولى بني هاشم، قال فيه الحافظ: (مقبول) (6)، يعني إن تُوبع، ولم أجد له متابعاً، فالحديث ضعيف.

   ولذا قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه"(7). وذكره الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي(8).

الاستدلال :

   ذكر هذا الحديث الدكتور زغلول النجار، في محاضرته (الإعجاز العلمي في القرآن) (9)، لما فيه – كما في آيات قرآنية كثيرة – من بيان لحقيقة علمية لفائدة الجبال، لم تعرف إلا في الأربعينات من هذا القرن، فقال: "يَمّنُّ الله علينا في آيات كثيرة بأنه جعل الجبال أوتاداً، وأنه أرسى الأرض بهذه الأوتاد، والأرض هنا يقصد بها القشرة الأرضية التي نحيا عليها، وإذا أخذنا أي قاموس من القواميس العلمية الآن، أكبر القواميس العلمية، أو حتى اللغوية؛ نجد تعريفه للجبال: أنها بروز أرضي، يتراوح ارتفاعه بين ثلاث مئة وخمسين متراً أو يزيد"(10).

   وينزل القرآن قبل ألف وأربع مئة سنة، على نبي أمي، يصف الجبال بأنها أوتاد، ويأتي العلم الحديث ليؤكد أن هذه الجبال التي نراها على صفحة الأرض، بشموخها الذي يصل إلى تسعة كيلو مترات في قمة إفرست(11)، لها جذور تبلغ ستة إلى عشرة أضعاف ارتفاعها فوق سطح الأرض، وأن هذه الجزر تطفو في مادة لزجة شبه منصهرة، تحت القشرة مباشرة، وأن هذه الجبال هي التي تثبت القشرة الأرضية، لأن القشرة تتحرك على مادة لزجة للغاية، ودوران الأرض حول محورها يجعل هذه الحركة سريعة للغاية، ولولا الجبال لما استقامت الحياة على سطح الأرض على الإطلاق...، الجبال هي التي أرست هذه الألواح – يعني القارات – وجعلت الحركة بطيئة لا يكاد يدركها الإنسان ولا تتأثر بها حياة، ولذلك يَمنُّ الله علينا في آيات كثيرة، بأنه أرسى الأرض بالجبال، ويؤكد ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح(12): «عندما خلق الله الأرض جعلت تميد فأرساها الله بالجبال»، هذه حقيقة كونية، لم يعرفها العلماء إلا في أواخر الأربعينات من هذا القرن، وقد تحدث عنها القرآن بإفاضة، وتحدث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم  بإفاضة، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل دلالة قاطعة على أن القرآن كلام الله، وعلى أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  موصول بالوحي لا ينطق عن الهوى". اهـ.

التعليق :

   يحسن أن أذكر بعض التنبيهات على كلام الدكتور:

   أولها : قوله : "والأرض هنا يقصد بها القشرة الخارجية التي نحيا عليها"، هو كلام مقبول، وقد ذكر في محاضرته أن الأرض إذا ذكرت في مقابل السماء، فالمقصود الكرة الأرضية كلها، وإذا لم تذكر في مقابل السماء، فالمقصود القشرة الخارجية التي فيها الحياة.

   وهذا صواب – ولكن في الأغلب وليس على الإطلاق – كقوله تعالى: (أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [النمل:61] ومثل هذا كثير.

   ثانيها : تصحيحه للحديث غير صحيح؛ وقد تبين من التخريج أنه ضعيف، ويجب على الكُتّاب والدعاة، التحري في الحكم على الأحاديث.

   ثالثها : كلامه عن القواميس، أظنه يريد القواميس الأعجمية؛ لأن معاجم اللغة العربية عرفت الجبل بأنه: (كل وتد من أوتاد الأرض إذا عظم وطال) (13)، ولعلها أفادت مما جاء به القرآن عن الجبال، يؤيد هذا أن ابن فارس قال: "(الجيم والباء واللام) أصل يطرد ويقاس، وهو تجمع الشيء في ارتفاعه"(14). وهذا من حيث الأصل اللغوي قبل نزول القرآن، وأما مجمع اللغة العربية بالقاهرة فقد عرف الجبل بأنه: (ما علا من سطح الأرض واستطال، وجاوز التل ارتفاعاً) (15)!.

   رابعها : كلامه عن إرساء الجبال للقشرة الأرضية، مبني على أن سبب حاجتها للإرساء هو دوران الأرض حول محورها، والواقع أن هذا ليس هو السبب الوحيد الذي يجعل القارات بحاجة للإرساء، بل ليس بسبب أصلاً عند من لا يرى أن الأرض تدور، فلذا كان الأولى أن ينبه على أن الحركات الداخلية لجوف الأرض، تؤثر على استقرار القارات، كالبراكين والزلازل، فلذا أرسى الله القارات بالجبال الهائلة ذات الأوزان الثقيلة والجذور العميقة.

   خامسها : قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم  تحدث عنها – أي إرساء الأرض بالجبال – بإفاضة؛ غير صحيح، بل إني لم أقف  إلا على هذا الحديث – الذي استدل به الدكتور – في ذكر إرساء الأرض بالجبال(16)، والله أعلم.


(*)    محاضرة (الإعجاز العلمي في القرآن) للدكتور زغلول النجار، بنادي أبها الثقافي.

(1)     سنن الترمذي – كتاب التفسير – باب (95) – (5/423، 424ح 3369).

(2)     المسند (3/124).

(3)     المنتخب من مسند عبد بن حميد (3/109، 110ح 1213).

(4)     التوحيد (1/192، 193ح 66).

(5)     العظمة (4/1353، 1379، 1380ح 872، 896).

(6)     تقريب التهذيب ص (252).

(7)     كذا في متن تحفة الأحوذي (9/308)، وفي تحفة الأشراف (1/229)، وأما طبعة أحمد شاكر ومن بعده ففيها (حسن غريب).

(8)     ضعيف سنن الترمذي (....ح668).

(9)     محاضرة ألقاها في نادي أبها الثقافي، بعنوان (الإعجاز العلمي في القرآن)، ورقم الشريط في تسجيلات التقوى (8962/2) نقلتها منه بتصرف لتلائم الكتابة.

(10)   وانظر كتاب (وجه الأرض)، ص (366).

(11)    وانظر كتاب (وجه الأرض)، ص (365).

(12)    بل هو حديث ضعيف.

(13)    انظر القاموس بترتيب الزاوي (1/439)، ولسان العرب (1/537)، وتهذيب اللغة للأزهري   

     (11/95).

(14)   معجم مقاييس اللغة (1/502).

(15)    المعجم الوسيط (1/105)، ومجموعة المصطلحات العلمية والفنية، التي أقرها مجمع اللغة   

     العربية بالقاهرة (8/113).

(16)    وانظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث (1/318، 319).

 

 



بحث عن بحث