(أثر الأم الوراثي ، وما يستحب أن يتخير لنطفه (3ـ 4))

 

سبق في الحلقة الماضية ذكر ما وقفت عليه من المتابعات لحديث عائشة «تخيروا لنطفكم» بألفاظه ، أما الشواهد فقد وقفت على خمسة شواهد:

أحدها : حديث عمر مرفوعاً: «تخيروا لنطفكم، وانتخبوا المناكح، [وعليكم بذات الأوراك فإنهن أنجب]»(1)، أخرجه ابن عدي(2)، وأبو نعيم(3)، كلاهما من طريق يحيى بن صالح الوُحَاظِي عن سليمان بن عطاء عن مسلمة ابن عبدالله عن عمه أبي مشجعة عنه.

وأخرجه ابن الجوزي(4) من طريق ابن عدي ، وأعله بسليمان بن عطاء ، فقال فيه: "يروي عن مسلمة بن عبدالله الجهني أشياء موضوعة " .

وقال ابن حبان: " سليمان بن عطاء ، شيخ يروي عن مسلمة بن عبدالله الجهني عن عمه أبي مشجعة ابن ربعي ، أشياء موضوعة ، لا تشبه حديث الثقات ، فلست أدري التخليط فيها منه ، أو من مسلمة بن عبد الله"(5). اهـ.

وسليمان بن عطاء هذا ، هو القرشي أبو عمر الجزري ، قال فيه الحافظ: (منكر الحديث) ، وهو حكم البخاري وأبي زرعة فيه(6)، وقال في شيخه مسلمة: (مقبول)(7).

ولم يتابع، فهو لين الحديث .

وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة(8).

 

ثانيها : حديث أنس مرفوعاً: «تخيروا لنطفكم ، واجتنبوا هذا السواد ، فإنه لون مشوه»، رواه أبو نعيم(9) عن أحمد بن إسحاق عن أحمد بن عمرو بن الضحاك عن عبدالعظيم بن إبراهيم السالمي عن عبدالملك بن يحيى عن سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن الزهري عنه .

وقال: " غريب من حديث زياد والزهري ، لم نكتبه إلا من هذا الوجه " .

وأخرجه ابن الجوزي(10) من طريق أبي نعيم، وقال: "فيه مجاهيل"، ولعله يريد: عبدالملك بن يحيى ، وقد بحثت عن ترجمته فلم أقف عليها ، وكذلك عبدالعظيم بن إبراهيم السالمي ، لم أقف على ترجمته إلا في ثقات ابن حبان ، وقال فيه: (يغرب)(11).

ونقل الحافظ في اللسان كلام ابن حبان ، ولم يزد عليه(12).

وأما أحمد بن عمرو بن الضحاك ، فهو ابن أبي عاصم.

وشيخ أبي نعيم لم أقف على ترجمته .

وقد ذكر الشيخ الألباني حديث أنس هذا في (الضعيفة) (13)، وقال: " وإسناده مظلم ؛ فإن من دون ابن عيينة ، لم أجد له ترجمة ، غير عبدالعظيم هذا ، فأورده الحافظ في اللسان... فهو، أو شيخه ، أو من دونه ، آفة هذا الحديث ؛ فإن شطره الثاني منكر جداً...". ونقل كلام ابن القيم في أحاديث ذم الحبشان ، وقد تقدم(14).

 

ثم قال: "وأما الجملة الأولى من الحديث ، فقد وجدت لها طريقاً أخرى ، رواه الضياء في المختارة (223/2) من طريق تمام الرازي: ثنا أبو عبدالرحمن ضحاك بن يزيد السكسكي بـ (بيت لهيا) (15): ثنا محمد بن عبدالملك: ثنا سفيان بن عيينة به ، مقتصراً على قوله: «تخيروا لنطفكم» ، وهذا سند ضعيف ؛ الضحاك هذا مجهول الحال ، أورده ابن عساكر في (تاريخ دمشق 8/230)(16) وقال: روى عن وريزة(17) بن محمد ، وأبي زرعة الدمشقي ، روى عنه تمام بن محمد ، وعبدالرحمن بن عمر بن نصر، مات سنة (347)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً".

ثم قال: "وشيخه محمد بن عبدالملك، لم أعرفه، ويحتمل أن يكون ابن أبي الشوارب الأموي البصري ، والله أعلم"(18). اهـ.

والاحتمال الذي ذكره الشيخ بعيد ؛ لأن ابن أبي الشوارب توفي سنة (224 هجرية)(19) فيكون بين وفاته ووفاة السكسكي هذا، مئة وثلاث سنين، وإلا ففي سنده انقطاع، والله أعلم.

ثالثها: حديث أنس أيضاً، مرفوعاً بلفظ: « تزوجوا في الحجر الصالح...».

رابعها: حديث ابن عمر، مرفوعاً بلفظ: « وانظروا في أي نصاب تضع ولدك...».

خامسها: حديث أبي سعيد مرفوعاً بلفظ: « إياكم وخضراء الدمن...».

هذه الثلاثة الأخيرة ، كلها واهية ، وسيأتي الكلام عليها مفصلاً بعد قليل .

وهذا ما وقفت عليه ، من المتابعات والشواهد لهذا الحديث ، وتبين من التخريج أن الألفاظ المستدل بها ، إنما المسند منها (أ)، و (ب)، و (ج).

أما لفظ (د) فلم أقف عليه إلا في (تخريج أحاديث الإحياء)(20) للعراقي ، وضعفه ، وأما لفظ (هـ) فذكره السخاوي في المقاصد قال بعد ذكر لفظ (أ): وفي لفظ: « اطلبوا...»(21) وحكم عليه بالضعف .

وحديث عائشة ، مداره على أناس حالهم ما بين ضعيف ، ومجهول ، ومتروك ، سوى الحكم بن هشام(22)، وشواهده أضعف منه ، وأدنى رتبة ، ولذا فإن الأئمة الأُوَل ، الذين وقفت على كلامهم في هذا الحديث ، قد ضعفوه ، ولم يعتبروه شيئاً ، منهم:

= أبو زرعة ، وأبو حاتم ، قالا جميعاً: " لا يصح هذا الحديث "(23)، وقال أبو حاتم مرة: " الحديث ليس له أصل "(24)، وقال أخرى: " هذا الحديث منكر "(25)، وقال ثالثة: " هذا حديث باطل "(26).

= ابن حبان ، قال: " أصل الحديث مرسل ، ورفعه باطل "(27).

= الخطيب ، قال – بعد أن ساق طرقه العديدة –: " وكل طرقه واهية "(28).

وذكر رواية هشام بن زياد المرسلة، وقال: "وهو أشبه بالصواب"(29).

= ابن الجوزي، قال عنه وعن شواهده التي ذكرها: "هذه الأحاديث لا تصح"(30).

ومن المتأخرين: الشوكاني ، ذكره في الفوائد المجموعة(31).

وأما الذين قبلوه فمنهم:

= الحاكم ، صححه وتعقبه الذهبي ، كما تقدم.

= الحافظ ، حسنه في التلخيص ، قال: " ومداره على أناس ضعفاء ، رووه عن هشام ، أمثلهم صالح بن موسى الطلحي ، والحارث بن عمران الجعفري ، وهو حسن"(32).

ولعل الحافظ ذهل عن حال هذين ، فإنه قال في صالح بن موسى: (متروك) ، وقال في الحارث بن عمران: ( ضعيف ، رماه ابن حبان بالوضع ) ، كما تقدم .

ثم قواه في الفتح بحديث عمر المتقدم، فقال: " وأخرجه أبو نعيم من حديث عمر أيضاً، وفي إسناده مقال ، ويقوى أحد الإسنادين بالآخر"(33). اهـ.

وهذا تساهل منه ؛ فإن في إسناده سليمان بن عطاء القرشي ، قال فيه البخاري ، وأبو زرعة: (منكر الحديث)، واعتمد حكمهما عليه في التقريب .

= السخاوي ، نقل كلام الحافظ ، ولم يعزه إليه فلعله تبناه(34).

= السيوطي ، رمز له بالصحة(35).

= الألباني ، صححه بمجموع متابعاته وطرقه ، وبحديث عمر، فقال: " فالحديث بمجموع هذه المتابعات والطرق ، وحديث عمر، صحيح بلا ريب"(36).

ولعل الشيخ اعتمد على كلام الحافظ  فلم يدقق النظر فيما ذكر، وقد بينت آنفاً ما في حديث عمر .

أما المتابعات فكان اعتماد الشيخ على متابعة الحكم بن هشام(37)، وإسنادها حسن كما قال ، والحديث حسن من هذه الطريق فقط ، ولا يبلغ الصحة أبداً ، كما ذهب الشيخ الألباني .

   


 


(1) -  زيادة منكرة.

(2) -  الكامل (3/286).

(3) -  ذكر أخبار أصبهان (2/115).

(4) -  العلل المتناهية (2/122، 123ح 1006).

(5) -  كتاب المجروحين (1/329).

(6) -  تهذيب التهذيب (4/185)، وتقريب التهذيب (ص253).

(7) -  تقريب التهذيب ص (351).

(8) -  الفوائد المجموعة (ص131ح 364).

(9) -  الحلية (3/377).

(10) - العلل المتناهية (2/123ح 1008).

(11) - الثقات (8/424).

(12) - لسان الميزان (4/39، 40).

(13) - السلسلة الضعيفة (2/159ح 730).

(14) - في التعليق على المتابعة رقم (6) من المتابعات للحارث بن عمران، عن هشام بن عروة.

(15) - (بيت لهيا) بكسر اللام، وسكون الهاء، قرية بغوطة دمشق، انظر: معجم البلدان (1/522).

(16) - تاريخ دمشق – مصورة مكتبة الدار (8/359).

(17) - براء ثم زاي. انظر: الاكمال (7/391)، وتوضيح المشتبه (9/184).

(18) - السلسلة الضعيفة (2/160ح 730).

(19) - تهذيب التهذيب (9/281).

(20) - المغني عن حمل الأسفار، في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الآثار، المطبوع مع الإحياء (2/41)، ولفظ الإحياء: "... فإن العرق نزاع"، وجملة: "... فإن العرق دساس"، جاءت في الشاهد الثالث والرابع.

(21) - المقاصد الحسنة (ص169 ح 323).

(22) - انظر المتابعة رقم (1)، من المتابعات للحارث بن عمران، عن هشام بن عروة.

(23) - العلل لابن أبي حاتم (1/407).

(24) - المصدر السابق (1/403، 404).

(25) - المصدر السابق (1/403، 404).

(26) - المصدر السابق (1/403، 404).

(27) - كتاب المجروحين (1/225).

(28) - تاريخ بغداد (1/264).

(29) - المصدر السابق (1/264).

(30) - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/124).

(31) - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (ص130 ح 363).

(32) - التلخيص الحبير (3/146).

(33) - فتح الباري (9/125).

(34) - المقاصد الحسنة (ص169ح 323).

(35) - الجامع الصغير مع الفيض (3/237 ح 3268).

(36) - السلسلة الصحيحة (3/56، 57 ح 1067).

(37) - هي المتابعة رقم (1)، من المتابعات للحارث بن عمران، عن هشام بن عروة.

 

 



بحث عن بحث